أ.د/ طه جابر العلواني
حين كنت في العراق لم أكن أعرف أحدًا من آل الجلبي، لكنَّه ما من عراقيّ إلا ويعرف السيد عبد الهادي الجلبي، باعتباره واحدًا من أهم رجال الأعمال في العراق، وتمتع بعضويَّة مجلس الأعيان -على ما أذكر- لعدَّة دورات، كانت المرة الأولى التي التقيت بها بالدكتور أحمد عبدالهادي الجلبي في طهران، حين جاء يقود أخاه الأكبر الدكتور حسن الجلبي -الأستاذ سابقًا بكليَّة الحقوق- وذلك للمشاركة في ما كان يهيَّأ له من محاولات تغيير نظام حكم صدام البكر في بغداد، لينضم آل الجلبي كلّهم لهؤلاء الذين كانوا قد اجتمعوا في طهران لينسقوا مع الملا البارزاني والبيشمركة والقيادة الإيرانيَّة التي كانت تساندها –آنذاك- جهات عربيَّة معروفة، تتصدرها ثلاثة دول عربيَّة.
كان الدكتور أحمد شابًا لم يتجاوز -فيما أظن- الخامسة والعشرين، كان قد تخرَّج لتوه، وحصل على الدكتوراه، وعيُّن أستاذًا في الجامعة الأمريكيَّة في بيروت، وتكررت لقاءاتي به وبأخيه الدكتور حسن ثم جواد وطلال عدة مرات، أثناء زياراتهم المكوكيَّة التنسيقيَّة إلى طهران، وكانوا على ما يبدو ينسِّقون مع الراحل عبد الرزاق النايف وطهران قبل وصولي إلى طهران، لم يكن أحمد –آنذاك- يلفت النظر، وكان بمثابة سكرتير لأخيه الدكتور حسن، لكنَّه كان متحركًا، وقد يطرح في بعض الجلسات بعض الآراء والأفكار على استحياء، كان خجولًا، متحفِّظًا، ولكنَّه كان خصمًا لنظام البكر صدام في بغداد، مثل جميع أفراد أسرته.
لم يكن هناك ما يُشير إلى البُعد الطائفيّ في توجُّه أي من آل الجلبي -آنذاك، وعلى الأقل بالنسبة لي لم ألاحظ ذلك، وبعد اعتزالي للعمل السياسيّ وقضائيّ فترة إحدى عشر عامًا في السعوديَّة ثم انتقالي إلى أمريكا رأيته مرتين، المرة الأولى زارني في مكتبي في هيرندون ((Herndon بفرجينيا بصحبة سعد صالح جبر، يدعوني في تلك الزيارة إلى المشاركة في نشاط يريد أن يعمله في شمال العراق باسم المؤتمر العراقيّ؛ فاعتذرت له ولسعد بأنَّني منصرف إلى أعمالي الفكريَّة وكتاباتي ولا أفكر بأي عمل سياسيّ، وإنِّي ما جئت إلى أمريكا لكي أمارس عملًا سياسيًّا، بأي شكل من الأشكال، بل لأمارس البحث والدراسة والكتابة، والتدريس، ولا شيء غير ذلك.
قضى معي حوالي ساعتين، أو أكثر يحاول إقناعي؛ فرفضت، وغادر هو وسعد آسفين، ولم ينس أن يترك لي عنوانه وهاتفه لأتصل به إذا واتتني أيَّة فرصة أو تغيَّر موقفي، فلم يتغيَّر موقفي ولم أتصل به ولا بسواه من السياسيّين العراقيّين، وعقد المؤتمر وبلغتني أخباره وأخبار من حضر، ثم لم ألقه إلا في أربعينيَّة السيد محمد باقر الحكيم، التي عقدت في واشنطن، بحضور مجموعة من الساسة العراقيّين، كان الدكتور أحمد الجلبي في مقدمتهم، ولما حضر بول ولف واتس ليلقي كلمته في تأبين الراحل الحكيم، إذا بالدكتور أحمد الجلبي يذهب إليه ويمسكه من يده ويأتي به إليَّ، فقدمه إليَّ وقال: هذا نائب وزير الدفاع الأمريكيّ، والتفت إليه وقال بصوت أسمعه: بول إذا أردت أن يستقر الوضع في العراق، وأن يدخل السنَّة في العمليَّة السياسيَّة فلابد من أن تقنع الدكتور طه بأن يتخلى عن موقفه السلبيّ من العمل السياسيّ ويأتي إلى العراق، ونقدم له نحن وأنتم جميع ما يحتاجه من إمكانيَّات ليهدئ الشارع السنيّ، ويجعل المكون السنّي قادًرا على الانخراط في العمليَّة السياسيَّة، فابتسم بول ولف واتس وحيَّاني، ثم ألقيت كلمتي وألقى بول كلمته.
قرأ بول الفاتحة باللغة العربيَّة، ثم بدأ يعدد مظالم الشيعة وحقوقهم المغتصبة التي تحاول أمريكا أن تردها عليهم، تحقيقًا للعدل، ولعلَّهم يكونون خيرًا من سابقيهم من السُنَّة في إقامة نظام ديمقراطيّ، وشعرت بالخبث اليهوديّ، ولحن القول الصهيونيّ في لهجته، فقمت إليه وقلت: مستر بول كنت أعرف أنَّ الشيعة طائفة من المسلمين، فلو كنت مسلمًا لما استغربت موقفك من الحديث عن مظلوميَّتهم، وحقهم في أن يستفيدوا من هذه الفرصة، فرصة دخول الأمريكان العراق، فتقول أنت ما قلته عن المظلوميَّة، واغتصاب حقوقهم في السابق، وما إلى ذلك، أما وأنت يهوديّ على ما أعرف فهل لديكم أيضًا طوائف شيعة وسنَّة في اليهوديَّة؟
ابتسم ابتسامة صفراء، بادلته بمثلها وانصرفنا، وشعرت بأنَّ بول ولف واتس قرر أن ينحاز إلى الشيعة، ويشجع ما استطاع صراعًا طائفيًّا داخل العراق، وذلك ما حدث.
أمَّا الدكتور الجلبي فقد أصبح واحدًا من أبرز خمسة من السياسيّين الشيعة الذين يقودون العراق، يصرِّفون دفة الحكم والمال فيه، وبرز الدكتور أحمد الجلبي باعتباره أهم ركن من أركان ما سماه الجلبي نفسه بالبيت الشيعيّ، فوجئت قبل يومين بنبأ وفاته، وبلغتني الأنباء أنَّ كريمته طالبت بتشريح جثته؛ لأنَّها تشك بأنَّه توفي وفاة طبيعيَّة، لكن الحكم في العراق على ما يبدو لا تنقصه المشاكل وتم دفن الراحل ودفن أسراره الكثيرة معه.
كان خصوم الدكتور أحمد من الشيعة يتهمونه بأنَّه هو من أغرى أمريكا بدخول العراق، وهو من زوَّر وثائق بالتعاون مع حكومة طهران على أنَّها وثائق وصور لمعامل تخصيب اليورانيوم، وأنَّها في بغداد أو مناطق عراقيَّة، في حين أنَّها كانت إيرانيَّة، وأنَّ تلك الصور والوثائق هي التي أقنعت كولن باول وزير خارجيَّة أمريكا –آنذاك- بأنَّ صدَّام يمتلك أسلحة نوويَّة، أو أنَّه قد تجاوز مرحلة التحضيرات إلى مرحلة الإنتاج أو قارب، وذلك كان أهم الدوافع التي قدمت للأمم المتحدة ولمجلس الأمن وأقنعت الإدارة الأمريكيَّة بضرورة احتلال العراق.
كنت أتمنى لو أنَّ الدكتور أحمد قبل وفاته وضَّح للناس هذا الأمر، أو كتب فيه، نافيًا أو معترفًا، كما أنَّ هناك مشكلة بنك أردني اتهمه بعض الأردنيين بالاستيلاء على المال الذي فيه، وإعلان إفلاسه.
لا شك أنَّ الدكتور أحمد الجلبي آلت إليه وثائق وأسرار لا يستغني عنها الدارسون لتاريخ العراق الحديث، وسيكون أشد الناس حاجة إلى وثائق وأوراق الدكتور أحمد الجلبي أولئك الذين سيؤرخون للفترة القصيرة التي أعقبت طرد صدام وقواته من الكويت، هناك أسرار كثيرة لعل الدكتور الجلبي لم يأخذها معه، ولعل كريمته وأهل بيته يتيحون هذه الأسرار للمؤرخين العراقيّين، حفظًا لتاريخ العراق، وتفسيرًا لكثير من أحداثه، فلا شك أنَّ مذكرات الدكتور أحمد ووثائقه وأوراقه وهي وثائق آل الجلبي كلهم سوف تكون ذات قيمة عليا لا تقدر بثمن، إذا اشتملت على الحقائق التي عايشها وعاصرها وكان طرفًا فيها، وإذا أرادت أسرته أن تتصدق على روحه بشيء فإنَّ أفضل ما تتصدق به أن تجمع وثائقه وأوراقه وملاحظاته خلال الأربعين سنة الماضية وتتيحها للباحثين في تاريخ العراق الحديث، فتلك أفضل خدمة وأهم صدقة جارية.
نسأل الله (جل شأنه) أن يتغمدنا برحمته، ويغفر لنا، ويعين العراق على ما هو فيه، ويخرجه من ظلماته -أيًّا كان من وضعه فيها-إلى نور من الله، فهو بلد الأئمة من آل بيت النبوَّة، وعلماء الأمَّة، نسأل الله أن يكشف عنه الغمة.