Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

عز العلماء

أ.د/ طه جابر العلواني

في حوار دار بيني وبين قائد انقلاب الرابع عشر من تموز عبد الكريم قاسم سنة 1958م، دعاني إلى مكتبه بعد أنّ أخرجني من السجن بعد مرور سبعة أشهر ونصف على سجني، فبدأ بالتهديد، والوعيد، وقدرته على قتلي، أو تركي في السجن مدى الحياة -لو أراد-، أو إبرازي ومساندتي في تشكيل جمعيَّة دينيَّة تعني بالأخلاق فقط، وسيدعمها، ويكون أول أعضائها والمشاركين فيها، وأستطيع من خلالها أن أمارس الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على وجه، وأقدم نصائحي مباشرة إليه بدلًا من خطب المنابر، أو الكتابة في الصحف، وكنتُ اعتمر عمامتي آنذاك العراقيَّة، وعليَّ جبتي كذلك، فبعد أن فرغ من تهديده، ووعيده، وإنذاره، وتبشيره، وعرضه مبلغ عشرة آلاف دينار، وكان الدينار آنذاك يصرف بثلاثة دولارات ونصف.

قلت له: يا سيادة الزعيم هل فرغت؟

قال: نعم، انتظر جوابك.

قلت له: ما تعرضه عليّ تستطيع أن تشتري به من سوق إعداد العمائم، وبيعها عشرة آلاف عمامة، فإنَّ أردتها بحشوها من البشر فقد تحصل على ألف عمامة بهذه المبالغ التي تعرضها عليّ، أمَّا عمامتي هذه فثمنها غالٍ، لا تستطيع شراؤها، ولو أنفقت ميزانية الدولة العراقيَّة كلها؛ لإيماني بأنَّ الأجل قد حدده الله (جلَّ شأنه) فأجل كل إنسان مسمى منه، لا يملك أحد له تقديمًا ولا تأخيرًا، ورزقه كذلك مقدر له، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها المقدر لها منه (سبحانه)، ويكون من المشركين من يربط بين رزقه وبين كفره، قال (تعالى) ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ (الواقعة:82)، فإن كنت باحثًا عن أصحاب الرسوم، والأشكال فدونك مئات العمائم التي تستطيع شرائها بأبخس الأثمان، ودع لي عمامتي فهي ليس للبيع أبدًا ولا للتأجير.

والحمد لله رب العالمين حفظني (جلَّ شأنه) منه، ومن سواه، وامتد بي الأجل بعد كل تلك السنين حتى بلغت عمري هذا.

 فإذا كانت الحياة، والرزق، وكل أنواع التأثير بيده (سبحانه) فلِمَ يخاف العبد، ويحوَّل نفسه إلى عبد للعبيد.

 وبهذه المناسبة يسرني أن أهدي قصيدة أبا الحسن الجرجاني -يرحمه الله-لهؤلاء الذين يرتدون لباس أهل العلم والفضل ظاهرًا، واستقرت في قلوبهم جل معاني الذل، والتردد، والطمع، والهزيمة، والجراحات النفسيَّة، والخوف من غير الله (جلَّ شأنه)، لعل من بقي في نفسه أثارة من حياء يتعظ، ويعتبر، ويثوب إلى رشده، فيقول الجرجاني:

يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما رأوا رجلاً عن موقفِ الذلِّ أحجما
أرى الناسَ من داناهُمُ هان عندهم ومن أكرَمته عزةُ النفسِ أكرِما

 

ولم أقضِ حَقَّ العلمِ إن كان كُلَّمَا بدا طَمَعٌ صَيَّرتُه لي سُلَّما
وما زلتُ مُنحازاً بعرضيَ جانباً من الذلِّ أعتدُّ الصيانةَ مَغنما

 

إذا قيلَ هذا مَنهلٌ قلتُ قد أرى لكنَّ نفسَ الحرِّ تَحتَملَ الظَّمَا

 

أُنزِّهها عن بَعضِ ما لا يشينُها مخافةَ أقوال العدا فيم أو لما

 

فأصبحُ عن عيبِ اللئيمِ مسلَّما قد رحتُ في نفسِ الكريمِ مُعَظَّما
وإني إذا ما فاتني الأمرُ لم أبت أقلِّبُ فكري إثره مُتَنَدِّما
ولكنه إن جاء عَفواً قبلتُه وإن مَالَ لم أُتبعهُ هَلاِّ وليتَما
وأقبضُ خَطوي عن حُظوظٍ كثيرةٍ إذا لم أَنلها وافرض العرضِ مُكرما
وأكرمُ نفسي أن أُضاحكَ عابساً وأن أَتلقَّى بالمديح مُذمَّما

 

وكم طالبٍ رقي بنعماه لم يَصِل إليه وإن كَانَ الرَّئيسَ الُمعظَّما
وكم نعمة كانت على الُحرِّ نقمَةً وكم مغنمٍ يَعتَده الحرُّ مَغرَما
ولم أبتذل في خدمة العلمِ مُهجَتي لأَخدمَ من لاقيتُ لكن لأُخدما
أأشقى به غَرساً وأجنيه ذِلةً إذن فاتباعُ الجهلِ قد كان أَحزَما
ولو أن أهل العلمِ صانوه صانَهُم ولو عَظَّمُوه في النفوسِ لَعُظِّما
ولكن أهانوه فهانو ودَنَّسُوا مُحَيَّاه بالأطماعِ حتى تَجهَّما
فإن قُلتَ جَدُّ العلم كابٍ فإنما كبا حين لم يحرس حماه وأُسلما

 

وما كلُّ برقٍ لاحَ لي يستفزُّني ولا كلُّ من في الأرضِ أرضاه مُنَعَّما
ولكن إذا ما اضطرني الضُّرُّ لم أَبتِ أُقلبُ فكري مُنجداً ثم مُتهما
إلى أن أرى ما لا أغَصُّ بذِكره إذا قلتُ قد أسدى إليَّ وأنعما

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *