Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

قضيَّة للتدبُّر والنقاش

أ.د/ طه جابر العلواني.

الحمد لله رب العالمين، الذي أنعم على كثير من عباده المؤمنين في هذه الأيام بالإقبال على تدبُّر القرآن المجيد، والتفكُّر في آياته، وانتشرت مؤسَّسات تعليميَّة تدعو إلى التدبُّر، وتشجع عليه، وتعمل على التأصيل له، وإدراجه في إطار تعليم جامعيّ، يمكن تدريسه وتناقله، منهجًا ومبادئ وجزئيَّات وغيرها، ومثل أي شيء جديد قد تختلف الأنظار فيه، وتتعدد السبل لتحقيقه في بداية الأمر، وتظل كذلك فترات قد تطول أو تقصر إلى أن يستقر الأمر، ويكون لذلك مبادئه، وقواعده، وأصوله، وجزئيَّاته وفروعه.

 والتدبُّر اليوم في مفترق طرق، فمنهم من يرى أنَّ التدبُّر هو عبارة عن تأمل في بعض آيات الكتاب الكريم بعقل فطريّ أو طبيعيّ، أو عفويّ تلقائيّ، أو وضعيّ أو فلسفيّ في بعض الأحيان، ولكن مآله ونهايته إلى التأمُّل، والتأمُّل شيء والتدبُّر شيء آخر، فالتأمل يعتمد على الخواطر، والوجدان، والقدرات الشخصيَّة، والمواهب الإلهيَّة، والتدبُّر لابد أن يستند إلى بعض العلوم والمعارف القبليَّة وأن يكون العقل المتدبِّر عقلًا معرفيًّا، له من المعارف اللغويَّة والبلاغيَّة والتاريخيَّة والاجتماعيَّة والسلوكيَّة نصيب معقول، يؤهله لأن يتدبَّر آيات القرآن أي أن يبحث فيما بين يدي القرآن وما في أدبار آياته، أي من بين يديه ومن خلفه، فيكون له قدرة على فهم المآلات، والدلالات، وكيف يُغلِّب دلالة على أخرى، وإذا تعادل مستوى الدلالات عنده فكيف يرجح دلالة على أخرى، إلى أمور كثيرة يعمل العاملون الجادون في بلورتها ووضع أسسها ومعالمها، ولعل الله يجعل النجاح نصيبهم في وقت لن يطول.

والأمر الذي أود طرحه بين يدي المتدبِّرين الآن، أمر يتعلق بأصل الوحي، وبالنبوَّات، فهي الحامل لرسالات الله إلى البشر، وعلى أساس منها يتم الاتصال بين الوحي وبين البشر، ولتيسير ذلك نود أن نطرح بعض الأسئلة بين يدي هذه المسألة:

السؤال الأول: هل يعلم الرسل بأنَّهم رسل قبل أن يبدأ نزول الوحي بالكتب أو الصحف أو الآيات عليهم؟ أو يعلمون بذلك مع بدأ النزول، بحيث يقترن الإعلام ونزول الوحي معًا، فيبلَّغ النبي والرسول أنَّه اُصطفي واُختير لرسالة الله، وينزل الوحي عليه في الَّلحظة نفسها؟ أو ينزل الوحي ثم يخبر الرسول بأنَّه قد تم اختياره، وأنَّ ما نزل عليه آنفًا جاء بناءً على ذلك الاختيار؟ ولابد من دراسة نموذجين أو أكثر في إطار الإجابة عن هذا السؤال: رسالة سيدنا إبراهيم –عليه السلام، وسيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيدنا موسى -عليه السلام.

وكيف كان بدأ الوحي لكل من هؤلاء الثلاثة؟ وكيف ومتى أُعلم بأنَّه رسول الله، ونبي الله، وأخبر بالآيات التي تدل على رسالته؟

السؤال الثاني: استثقلت العقول الفلسفيَّة والبشريَّة بصفة عامَّة فكرة اصطفاء الأنبياء، واختيارهم، وتوهمت أنَّ هذا الاصطفاء تَحكُّم إلهيّ جبريّ لا يقوم على دليل؛ ولذلك كانوا يقولون: ﴿وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (الزخرف:30-32)، وقال فرعون لقومه في سيدنا موسى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (غافر:26) ، وقال قوم سيدنا محمد: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (الأنبياء:36)، فكيف تُقيِّم هذا القول؟

السؤال الثالث: بدأ نزول الوحي على سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محمد بـ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق:1-5) الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وبدأ نزول الوحي على سيدنا موسى بقوله تعالى: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (طه:13-14)، فما الفرق الحقيقي بين الأمر بالاستماع للوحي، والقراءة فيه؟ أله علاقة بعموم الرسالة وعالميَّتها وخصوصيَّتها، أو أنَّ له دلالات أخرى، كالدلالة على اختصاص الرسالة بشعب أو قوم، أو أنَّ هناك فرقًا بين وحي يراد له الدوام والبقاء والاستمرار إلى يوم القيامة ووحي مؤقت، ينتهي أو يتوقف بظهور أو مجيء نبي جديد، أم ماذا؟

السؤال الرابع: كيف نقرأ الروايات الواردة حول بحيرة الراهب، ورؤيته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رحلته إلى الشام، مع عمه أبي طالب، وهو في الثانية عشر من عمره، وقصته مع ورقة بن نوفل، بعد نزول الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وما روي من خوفه على نفسه أن يصيبه شيء لا يدريه؟ وكيف يتفق هذا مع ما أخبرنا الله به من صناعة الأنبياء على عينه، وتدريبهم وهدايتهم به (جل شأنه)، وقوله لموسى وكل الأنبياء مثله: ﴿.. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (طه:39)، ﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (ص:47)؟.

السؤال الخامس: هناك إشارات بأنَّ اتصال الوحي بالأنبياء والرسل في المرات الأولى له وقع شديد على أنفسهم، قد يحاول البعض منهم أن يتشبث ببشريَّته فتظهر عليه أعراض الخوف، والقلق، كما حدثنا القرآن عن سيدنا موسى في قوله (جل شأنه): ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (القصص:30-31)، وقوله (تعالى): ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (النمل:10)، وقوله (تعالى) بعد استقرار النبوَّة له وعرض الاختبار مع سحرة فرعون: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى (طه:65-68)، فهل يتعارض هذا مع إيمان النبي بنبوَّته وإدراكه لحقيقة ما يوحى إليه، وبشريَّته التي يعرفها كذلك؟

السؤال السادس: هناك محاولات لعَقْلنة الوحي لدى بعض الإسلاميّين، وإصباغ الصفة العقلانيَّة عليه، وإخراجه من دائرة الغيب بشقيه الغيب النسبيّ والغيب المطلق؛ لكي يقربوه إلى أذهان المعاصرين الذين سيطرت على عقولهم المناهج التجريبيَّة، وشاعت فيهم الحسيَّة والماديَّة، كيف يمكن عرض الوحي وإقناع الناس به وأنَّه سبيل للمعرفة الإنسانيَّة، ومصدر من مصادر المعرفة، وتوثيقه بالسمع، في حين أنَّ الأمور العلميَّة الأخرى قد توثق بالتجربة، وما الفرق من حيث الإدراك بين الأمرين؟

السؤال السابع: صناعة الله لسيدنا إبراهيم –عليه السلام- بدأت بإلهامه فن القراءة في الكون، والطبيعة؛ لتقوده إلى القراءة في الوحي، ورسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأت بقراءة الوحي وأُدرج فيها وفي الاستدلال لها أدلة الخلق والإبداع والعناية وما إليها، وهي أدلة كونيَّة، ما الذي نفهمه من هذا عند التدبُّر العميق فيه؟ وكيف نربط بينها وبين الجمع بين القراءتين؟ وهل يكون سيدنا إبراهيم النبي الرسول القائد لقراءة الكون الذي يبحث عن التأليف بين الكون والغيب، ويكون رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) القائد في قراءة الوحي والاستدلال عليه بالكون، فتتكامل الرسالتان بداية ونهاية بالتأليف بين القراءتين والجمع بينهما، ليبقى موضوع الجمع بين القراءتين حجر الزاوية في فهم الوحي، وحسن السير في الكون، والوصول إلى إسلام الوجه لله (تعالى)، وتلك صبغة الله وملة إبراهيم؟

وإن مَنَّ الله على أي متدبِّر بقضايا أخرى في هذه المسألة، أو أسئلة أخرى، فنحن نرحب جميعًا بأن تطرح للنقاش مع ما تقدم.

بؤرة النقاش تتعلق بمجموع قضايا منها:

الأمر الأول: بدايات الوحي إلى الأنبياء، وهل يكون النبي على علم بأنَّ اختياره قد تم لحمل النبوَّة والرسالة قبل أن يوحى إليه، أو مع الوحي إليه، أو بعد ذلك؟

والأمر الثاني: حقيقة الوحي وعلاقته مع عالميّ الغيب والشهادة.

والأمر الثالث: التوازن بين بشريَّة الرسول ورسالته ونبوَّته.

والأمر الرابع: هل يحتاج الرسول إلى إنسان عاديّ أو عالم أو خبير يطمئنه على نفسه، ويخبره أنَّ ما أنزل عليه إعلام له باصطفائه نبيًا ورسولًا، واختياره لحمل رسالة الله.

نأمل أن تكون هذه القضيَّة بداية للتدبُّر المشترك أو التدبُّر الجماعيّ في مسائل محددة، تساعد -إن شاء الله- على التدريب على التدبُّر بشكل معرفيّ منهجيّ والتمهيد لإيجاد تراكمات معرفيَّة تصلح لإعداد مقرر أو أكثر لطلبة الجامعات والدراسات العليا بصفة خاصَّة في مجال التدبُّر.

وفقكم الله.

رأي واحد على “قضيَّة للتدبُّر والنقاش”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *