(الحلقة الرابعة)
أ.د/ طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدي رسول الله خاتم النبيين، وعلى آله، وصحبه، ومن تبع سنته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
ربِ اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، ومن قلمي يفقهوا قولي.
اطلعتُ على ما تفضل به عدد من أهل العلم تعليقًا على فتوى الأزهر التي نقلتها حول “استقلال السُنَّة بالتشريع”، والنقاش الذي دار حولها، وتعليق أبديتُ فيه رأي معزز لرأي الفريق القائل بأنَّ الكتاب والسُنَّة لهما مدار واحد لا ينفك أي منهما عن الآخر، وكأنَّهما شجرة واحدة لها جذور، ولها أغصان.
فجذور السُنَّة كلها -إذا ثبتت صحتها دراية ورواية-لها أصول عامة، أو خاصة، أو مزيج من كليهما في كتاب الله (تبارك وتعالى)، وأنَّ كتاب الله (جلَّ شأنه) له الحاكميَّة المطلقة، والتصديق، والهيمنة، وأنَّ الله (جلَّ شأنه) جعل لكتاب الحاكميَّة، والتصديق، والهيمنة، والاستيعاب، والتجاوز، ونَص (جلَّ شأنه) في قوله تعالى ﴿.. وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾(الكهف:26)، على أن الحاكميَّة جزء من الألوهية، وهو لا يسمح باتخاذ إله غيره: لا نبي، ولا رسول، ولا أي جماعات، أو أفراد، وقال (تبارك وتعالى) معزز ذلك في مواضع عدة﴿ .. ُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ﴾(آل عمران:23).
والسُنَّة النبويَّة المطهرة يُصدق عليها الكتاب بالأمر بطاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبوجود أصل لها ثابت فيه، يصدق عليها، ويهيمن، ويخرجها، ويباعد بينها وبين سائر دوائر الشك والظن، وما إليها؛ لأنَّ القرآن المجيد ثبت بالتحدي، وبعجز الخلق كافة، وإلى يوم الدين أن يأتوا بمثله، وأي دعوى لوجود شيء يماثل القرآن المجيد هي خداج؛ لأن القرآن الكريم قد قال: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:88)، فالتحدي أتى بأصل القرآن، والإتيان بمثله، والخلق كلهم ثبت عجزهم عن أن يأتوا بالقرآن، أو يأتوا بمثله، وكل دعوى بوجود مَثل للقرآن الكريم دعوى باطلة في هذه الآية، وسُنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مندرجة في وظائفه التي حدَدَّها القرآن المجيد أفضل وأدق، قال الله (عزَّ وجلّ) ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:151)، و “الحكمة” المقصود بها الحكم الكامنة فيه، لا كما يقول الشافعي: الحكمة هي السُّنّة، وذاك ما يُبطله القرآن الكريم، و “يزكيهم” هنا بمعنى: أنَّه أُمِر أن ينادي في الناس ﴿ ..قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾ (الإسراء:93)، فالرسول قد بلَّغ الرسالة، وأدَّاها، ونصح الأمَّة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها: كتاب الله، أضاف من أضاف من الشيعة و”عترتي” وهي إضافة رغم قبوله حديثيًا، وأضاف من يقابلونهم “سنتي”، ورسول الله كانت وصيته على مشهد من الصحابة، وآل البيت، ولم يذكر غير كتاب الله، وهو يجود بنفسه، ولا يقال أنَّ هذا أيضا قد نُسخ؛ لأنَّه قد مات عليه رسولنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): “… وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ ” قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ “اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ” ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ..[1]
ولأنَّ الأخ العلامة/ أحمد الريسوني، والأخ الدكتور/ محمد خروبات، وبعض الآخرين كانوا أهل علم وفضل لا يقرأون الناس من خلال أقاويل الناس فيهم، بل يقرأون ما كتبوا، ويحاكمونهم بعدل القاضي، وسماحة الفقيه، وأريحية الداعيَّة، فلم أجد بين ما قاله الدكتور/ أحمد الريسوني وبين ما أؤمن به، وأدعوا إليه فَرقًا يُذكر.
أمَّا الأُخوة الآخرون فكل منهم جاء لينظر فيما كتبت، أو ذكرت بنظارة تمثل البارادايم ( (paradimالخاص بهم، الذي لا يوجد إلَّا في ذهنهم، ولا يقرأون الناس إلّا من خلال نظارتهم السوداء المكبرة والمصغرة؛ ولذلك فإنَّ هؤلاء جميعًا قد جاءوا بمقتضى نظاراتهم، والبارادايم ((paradim الذي يحملونه، وأسهل شيء أن تحكم على الإنسان بنظارتك أنت، ولكنه حكم بغير ما أنزل الله، فالافتراء على الله، وتجريح من لا يستحق التجريح، واستعلاء ممن لا يليق بهم الاستعلاء، وسوء فهم يجعل هؤلاء متهمين في أفهامهم، وقدراتهم على القراءة، فهم كالذي قيل فيه : “أساء سمعًا فأساء جابة”، وهؤلاء جميعًا أساءوا فهمًا فأساءوا التعليق.
فأمَّا حُجية السُنَّة، فأنا أرفض فيمن يزايد عليّ فيها، وأجعل الله حسيبي، ووليي، وناصري في صدره ونحره، وأسأله (جلَّ شأنه) أن يكفيني شر هؤلاء الذين لا يحسنون القراءة، ولكنَّهم يحسنون التهجم على من يقرأ.
فنسأل الله (جلّ شأنه) أنَّ يعافينا مما ابتلاهم به، ويقينا مما سقطوا فيه، ويجعلنا أحسن مما يظنون.
وأؤكد مرة أخرى، أنني إنسان لم أخرج عن مناهج العلماء، لا في حُجيَّة السُنَّة. فالسُنَّة عندي حُجة يكفر جاحد حُجيتها، والسُنَّة عندي تلاوة، وتعليم، وتزكية، وهداية، ونور، وبصائر لمن يقرأون القرآن، ويتلونه حق تلاوته. وأنا لا أفرق بين الله ورسله، ومعاذ الله أن أضع حواجز بين بين كتاب الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنا أُصدق عليها بالكتاب الكريم المصدق عليه، ولا أُصدق على السُنَّة بقول فلان، أو فلان، أو تقليد فلان، أو فلان بالجرح أو التعديل.
وهؤلاء الذين تقوَلوا علينا بعض الأقاويل، أسأل الله (جلَّ شأنه) أن يكفينا شرورهم، وبغيهم، ودوافعهم، ويحول بيننا وبين آذاهم.. إنَّه سميعٌ مجيب.
ولعل بعض هؤلاء يرجع إلى ما كتبناه، ويقرأه بعناية، كما علَّمَنا القرآن أن نقرأ أقوال الكافرين، والمخالفين، وأهل الكتب السابقة، وأصحاب الشبهات، ويظل يقرر بما يعتبرونه حجج، وأدلة، ثم يعود عليه بالرفض، والتنبيه لما فيه من رجس، وإلى ما يلحق أصحابها من غضب الله (جلَّ شأنه).
اللهم إنّي أشهدك على أننّي أُحبك بكل قلبي، وأُحب نبيك (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل قلبي كما أمرتني، وأُحب سنّته، وهديه، وسيرته، وخُلقه، وأصلي، وأسلم عليه كما أمرتني، وأدعو إلى الاقتداء به، والاستنان بسُنّته، وقد كان خلقه القرآن، وكانت سُنَّته القرآن، وكانت سيرته القرآن، به تحدى الناس، وهو ما أُمر أن يبينه للناس، ويتلوه عليهم، ويطبقه فيهم، ويزكيهم به.
اللهم فاشهد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
[1] وهكذا رواه أبو داود (1905) وابن ماجة (3074) وابن أبي شيبة (14705) وابن حبان (1457) والبيهقي (8827) والطحاوي في “مشكل الآثار” (41) من طرق عن حاتم به ، بذكر الوصية بكتاب الله فقط .