(الحلقة الثالثة)
أ.د/ طه جابر العلواني
هذه الحلقة الثالثة التي نناقش فيها النماذج التي ذكرها القائلون باستقلال السُنَّة، وأخبار الآحاد بالتشريع، فنقول وبالله التوفيق.
لقد ذكر المصرّون على أنَّ القرآن الكريم لا يستقل بالتشريع، وأنَّ تشريعاته لا تمضي إلا بعد إجازة السُنَّة لها، وقال بعضهم بناءً على ذلك: إن السُنَّة قاضية على الكتاب، ولا يقضي الكتاب على السُنَّة[i].
والذين قالوا بعدم جواز استقلال الكتاب بالتشريع وضرورة إكمال السُنَّة له استدلوا بأمور جعلوها في الوقت نفسه أدلة على جواز استقلال السُنَّة بالتشريع، فذكروا أمورًا حُرمت، وزعموا أننا لا نجد أصلًا لتحريمها في القرآن المجيد، وعلى ذلك فإنَّ السُنَّة تستقل بالتشريع. وفي مقدمة تلك الأمثلة: تحريم أكل الحُمر الأهلية، فتحريم أكلها ثابت عند هؤلاء في السُنَّة وحدها! ولو تدبروا القرآن الكريم فضل تدبر، لما اجترأوا على قول هذا، فالله (تبارك وتعالى) قال في الأنعام:﴿.. أحلت لكم بهيمة الأنعام..) (المائدة:1) -أي أحل لكم أكلها-، وقال (تبارك وتعالى) في موضع آخر:﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾(النحل:5).
لكنه حين ذكر الخيل، والبغال، والحمير قال: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل:8)، ولم يمتن علينا بأكلها؛ لينبه إلى أنَّها خُلقت للركوب، فإذا أقدم الناس في ظروف استثنائية، مثل: المجاعات، ونحوها على تناولها، فذلك استثناء ويجب العودة إلى الأصل بمجرد انتهاء تلك الأزمة، وقد كانت الحمير في المدينة المنورة –وهي منطقة زراعية- تشتد حاجة الناس إليها؛ للنقل، والحمل، والركوب، وما إليها، وكان الناس يأكلونها، فلمَّا نزل القرآن المجيد منبهًا إلى أنَّها للركوب، فإنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منع الناس من ذبحها؛ لحماية ما بقي منها للمواصلات، وللمزارعين؛ تيسيرًا لتنقلاتهم، وحمل محاصيلهم، وما إليها، فتكون السُنَّة في هذه الحالة لم تنشئ حكمًا مستقلا بتحريم أكل الحُمر الأهلية، بل بينت إيماء النص القرآني، وبالتالي فإنَّ القرآن قد استقل بالتشريع، وقامت السُنَّة بالبيان، فلا مجال لذلك الذي ذهب إليه نحوه الإمام الأوزاعي.
كما استدلوا على ذلك بأنَّ الله (جلَّ شأنه) قد ذكر محرمات النكاح تفصيلًا، ولم يذكر من بينها: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها. وهنا أيضا نجد القرآن المجيد قد حمل أصلًا لتحريم هذا الجمع المنكر بين العمة وابنة أخيها، والخالة وابنة أختها تحت زوج واحد؛ وذلك لأنَّه ما من عربيّ يقرأ ذلك إلا ويعلم أنَّ العم والعمة بمثابة الأب، والخال والخالة بمثابة الأم، والذي منع من الجمع بين الأختين منع من الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وكأن الرجل إذا جمع بينهما جمع بين أب وابنته، أو أم وابنتها فيكون قوله تعالى: ﴿ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (النساء:23). وذلك إيماء إلى أنَّ منع الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها يُعدّ من باب أولى، فلو أن أحدًا ضرب أحد والديه وقال: نهيتُ عن التهديد، ولا أجد دليلًا صريًحا بمنع الضرب، فذلك يعني أن الضرب مباح، فيقال لمثل هذا: إنَّ ذِكر الله (جلَّ شأنه) للتهديد، وهو مجرد إبداء تذمر بقول “أف” ليبين أنَّ الأذى محرم، فالجمع بين النساء يدمر حكمة النكاح، الذي كان الأصل فيه أنَّ يكون آية من آيات الله، يسكن كل من الزوجين إلى زوجه، وتضللهما المودة والرحمة، ويترتب عليها النسب، والصهر، ودوام النوع، ومعلوم أن العلاقات بين الضرائر من الصعب جدًا أن تحافظ على نقائها، والمرأة إذا تزوج عليها زوجها عمة أو خالة، فإنَّه يضعها موضع القاطع لأرحامه، المدمر لعلاقاته.
أمَّا تحريم أكل كواسر الطيور فإنَّما ما تأكله وتتناوله يجعل لحمها القليل محملًا بآثار الفرائس، ومنها الجيف التي تأكلها، والله أحلَّ لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، والفقهاء قد ذكروا أنَّ الدجاج الذي يُعَوَد على تناول النجاسات لا يجوز أكله إلا بعد أن يُعزل لعدة أيام، ولا يُطعم إلا طعامًا طيبًا، لئلا ينقل الخبء الذي تأثر به جسمه إلى جسم الإنسان الآكل.
وفي زماننا هذا عرفنا “جنون البقر” و “انفلونزا الطيور” وكثير من أمراض الحيوان التي تحدث نتيجة العلف، أو الطعام الذي تتناوله. والله (سبحانّه وتعالى) قد بين لنا أنَّه قد أُحلَّ لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث. والخبائث تشمل الطيبات التي تُحول بطريق العلف إلى خبائث أو حاملًا للخبث، والله قد حرم الخبائث في كتابه، وبينت ذلك سنته. والكواسر علَّمنا الله (جلَّ شأنه) أنَّ نُعلمها، ونُدربها لنصطاد بها لا لنأكلها، وفي أمثالنا العامية يقول العامة: “اللي ما يعرف بالصقر يشويه” فالصقر يفترض أن يصطاد لك، لا أن تجعله طعامًا لك إلا كطعام الضرورات.
فكيف يجرؤ امرؤ على القول بأنَّ القرآن قد خلى من ذكر بعض المحرمات، وانفردت السُّنة بتحريمها، وكلنا نعلم أنَّ الله (تبارك وتعالى) قد قال:﴿ .. وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ (الإسراء:12)، وقال (سبحانه وتعالى): ﴿.. وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ..﴾ (الأنعام:119)، وما ينبغي لأحد بعد ذلك أن ينسب إلى القرآن النقصان، أو تناسي شيء، أو تجاهله لمجرد تصحيح دعوى لا يحتاج أحد إلى تكريسها بهذا المركب الصعب، والمسلك الوعر الذي سلكه هؤلاء، والله أعلم.
[i] نسب هذا القول إلى امام أهل الشام الأوزاعي، وقد تردد في قبوله جمهرة الأئمة وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي نسب إليه قوله: لا أجرأ على قول ذلك، ولكنني أقول: السنة تبين الكتاب.