تفصيل ما أحكم في سورة الفاتحة
أ.د/ طه جابر العلواني
لقد تدبَّرت سورة الفاتحة وسورة البقرة فوجدت سورة الفاتحة ذات الآيات السبع سورة عمودها الأساس حصر الحمد والثناء والعبادة والاستعانة بالإله الواحد الأحد الرب الفرد الصمد، مع تعليل ذلك كله بربوبيَّته وألوهيّته وحاكميَّته وملكيَّته التامة للدنيا والآخرة، وأنَّ مواقف الناس من ذلك –أي: حصر الحمد والعبادة والاستعانة بمن يستحقها -ولا مستحق لذلك إلا الله- ذلك أمر قد انقسم البشر حوله لما سبق في علم الله (تبارك وتعالى) فكان منهم أولئك الذين سلموا بهذه الحقائق وآمنوا بها فكانوا من الذين اهتدوا فزادهم الله هدى وأنعم عليهم في الدنيا بالهداية والتقوى وتمام النعمة، وفي الآخرة بقبولهم وإسكانهم دار رضوانه. وقوم ضلوا في تلك المتاهات ومنهم هؤلاء الذين يثيرون الزوابع الفارغة حول القرآن المجيد ومعانيه بأشكال مختلفة، فهم جزء من ذلك الفريق الضالّ التائه الحائر الذي ضرب الله له مثلا سيأتي في سورة البقرة، وفريق غضب الله عليه ليأسه من الآخرة وتنكره لأنبياء الله وقتله وتكذيبه لكل من جاءهم بما لا تهواه نفوسهم من هدى الله ودينه، أولئك هم المغضوب عليهم.
وإذا كان الله (سبحانه وتعالى) قد أمر بقراءة هذه السورة في كل ركعة من ركعات الصلاة مفروضة أو مندوبة فذلك لتذكير المسلم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار بهذه السورة التي أحكمت، ليتذكر بها التوحيد الخالص والإيمان العميق وما يتطلبه من حصر الثناء والحمد والشكر والاستعانة والعبادة بالله رب العالمين، والتفكر الدائم بربوبيَّته وألوهيَّته ونعمه وصمديّته وتفرّده ووحدانيَّته في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله. فهذه الآيات السبع التي يقرأها المسلم في كل ركعة من ركعات الصلاة المفروضة وفي سبعة عشر مرة ركعة من الفرائض في الليل والنهار تذكره بعهده مع الله وتجعله في حالة حضور دائم بين يديه، هي في حقيقتها وإحكامها فاتحة الكتاب كله ومقدمته المشتملة على مكنون يندرج فيه كل ما فصل في الكتاب، ونجد تفصيلا وجيزًا لهذه الآيات السبع في الآيات الخمس والعشرين الأولى من سورة البقرة، فتلك الآيات الخمس والعشرون تبدأ تلك البداية الحكيمة.
ففي “ألم” لعل الباري (سبحانه) أراد أن يذكر البشريَّة بتلك النعمة الكبرى نعمة التمكن من تقطيع الأصوات إلى حروف ثم تحويلها إلى كلمات يفصح الإنسان فيها ويبين عما في نفسه ولولا ذلك لبقى الإنسان عاجزًا عن الإفصاح عما في نفسه، فنحن نسمع نهيق الحمار وصهيل الخيل ونباح الكلاب ورغاء الثيران ولا نستطيع أن نتبيّن ماذا يريد هذا الحيوان بإصدار ذلك الصوت، والإنسان كان صاحب صوت مثله مثل سائر تلك الحيوانات لكن الله (تعالى) ميزه بهذه القدرة الهائلة على تقطيع الصوت إلى أحرف لتكوين كلمات وهذه الكلمات تتحول إلى جمل يستخدمها الإنسان للإفصاح عما في نفسه، “علّمه البيان” أي أن يبين عما في نفسه. ثم يدخل في الآية الثانية في بيان أهمية المصدر الذي اشتمل على تلك الآيات والثقة التامة به، وأنّه لا ريب فيه ولا خلل، وكل ما يأتي به محكم ومفصل لا يمكن العثور فيه على عيب من العيوب.
ثم يبدأ ببيان وتفصيل صفات الذين أنعم عليهم في الآيات الخمس الأولى من السورة، ثم يبيّن في آيتين مراده بالمغضوب عليهم، ثم يبدأ ببيان أولئك التائهين الضالين في مجموعة آيات أخرى، وفي اثنتي عشرة آية بيّن صفات الضالّين، وذكر المنافقين نموذجا لهم، وضرب لهم مثلين لتوضيح مدى ضلالهم وحيرتهم، ففي سورة الفاتحة ومقدمة سورة البقرة نموذجان ظاهران للإحكام والتفصيل، وحين نتدبّر آيات الكتاب كلّها فإننا سنجدها دائرة بين الإحكام والتفصيل.
وفي الآية الحادية والعشرين يوجه النداء إلى الخلق كافة إلى العالمين أجمعين وبلفظ الناس ونداء القريب لحصر العبادة بالله (تعالى) وفي ذلك توكيد وتفصيل لما جاء في قوله تعالى: “إياك نعبد” في سورة الفاتحة، وشرح للعلل والأسباب والحكم التي تدعو إلى حصر العبادة بالله تعالى، فهو الذي خلقكم وخلق الذين من قبلكم. والآية التالية لها تفصيل لتلك العلل ومزيد بيان لها، ثم تأتي الآية ثلاثة وعشرون لتعود إلى التوكيد على صحة المصدر مصدر الهداية الذي سألنا الله (تبارك وتعالى) أن يمن علينا بها في ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ (الفاتحة:6) ومصدر هذه الهداية هو مصدر واحد لا ثاني له، الكتاب الذي لا ريب فيه، فهو الذي يحمل الهدى للمتقين، وهنا يأتي مع تأكيد نفي الريب عنه التحدي به بل بسورة من مثل سوره، هذا التحدي الذي يعلم الله (تبارك وتعالى) أنّهم لن يستطيعوا أن يستجيبوا له فلن يتمكنوا من الإتيان بمثل سورة واحدة من سوره، ولو اجتمعوا على ذلك واجتمع معهم الإنس والجن وسائر الخلق، وما دام الأمر كذلك ومادامت الدعوة ثابتة بدليلها وما دام التكذيب لا أثر له ولا دليل عليه؛ فإذًا لابد من أن يكون مصير الرافض هو النار التي وقودها الناس والحجارة، فإذا لم تسلّم أيّها الإنسان بصحة هذه الدعوى التي قام الدليل المطلق على صحتها فلا أقل من أن تتقي السقوط في النار التي وقودها الناس والحجارة، وهكذا نرى الإحكام والتفصيل يسيران في خطين متوازيين في سائر آيات الكتاب الكريم.
إنّ الناس قد يختلفون عندما ينظرون في أصناف البشر وقد تدرك بعضهم الحيرة في تصنيف بعض الناس والآيات السبع في سورة الفاتحة التي أحكمت والآيات المفصِّلة لها في مقدمة سورة البقرة قد بيّنت تصنيفات ثابتة للبشريَّة في مواقفها من الحق مهما اختلفت الأزمان ومهما تغيرت الأحوال، فالبشر أصناف ثلاثة في موقفهم من الحقائق، فإمَّا أن يكونوا مؤمنين بها مهتدين بأنوارها، أو يكونوا جاحدين بها ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف:8)، وإمَّا ضالُّون متردّدون متحيّرون تتجاذبهم الرغبات المتناقضة والشهوات المتنافرة والمطامع المتضادة وتلقي بهم هنا أو هناك، هذه الأصناف الثلاثة أصناف لا تخضع في تقسيماتها ومواقفها من الحقائق لتغيُّرات الزمان والمكان والأحوال والظروف، بل تخضع لعقلية الإنسان ونفسيَّته وضميره ووجدانه والمؤثّرات في نفسيّته وعقليّته وجماع شخصيّته، أمَّا التصنيفات الأخرى فهي تصنيفات سائلة متغيّرة لا تحمل عناصر ثبات ولا يمكن أن تستمر. وهكذا نجد ما أحكم بناؤه في الآيات السبع من سورة الفاتحة قد تم تفصيله في الآيات الخمس والعشرين الأولى من سورة البقرة ثم فيما بعدها.
فإذا أدركنا الحكمةَ في هاتين الآيتين الكريمتين: ﴿ الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود:1)﴾ ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (الزمر:23)﴾ وتدبرنا فيهما واستعنا بالله (جلّ شأنّه) أن يشرح صدورنا ويفتح قلوبنا وعقولنا وألبابنا إلى المعاني الدقيقة فيها فإننا سوف ندرك بأننا لا نحتاج تلك المسائل التي يحتاجها اللسان الإنسانيّ واللغات البشريّة من صفات لا تليق بالقرآن الكريم ولا يمكن أن تنسب إليه مثل: الإجمال والإبهام والإشكال والترادف والتقييد والتشكيك والتكرار والتواطؤ وما إلى ذلك من عيوب كلاميّة إذا جاز أن تطلق على لسان البشر فإنه ينبغي أن ينزه كلام الله (جلّ شأنّه) عنها كلها فلا تشابه فيه بمعنى الإبهام ولا نسخ ولا تعارض ولا تعادل ولا حاجة إلى الترجيع ولا إلى كثير من تلك الأمور التي أسقطت على القرآن المجيد دون تدبر ودون تأمل فجعلته وكأنّه كلام البشر في عيوبه والمآخذ عليه، ومن هنا نستطيع أن ندرك لماذا أضفى الله (جلّ شأنّه) على كتابه الحكيم كل تلك الأوصاف واستوعب في مكنونه وتفاصيله ومحكمه سائر احتياجات البشر التشريعيّة مهما تغيرت ظروفهم وتشعبت مشكلاتهم.
فالله (تبارك وتعالى) حين يقول ﴿ ..وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الأعراف:157) فإنّه (جلّ شأنّه) بهذه الكليات والعموميات الواضحة البينة التي لا تتوقف على غيرها ويتوقف عليها كل ما عاداها فإنه يجيب عن تساؤلات كل زمان ومكان ويعالج مشكلات كل إنسان، وبذلك يبين الله (جلّ شأنّه) للناس كافة الذي هم فيه يختلفون، ويستطيع الإنسان في عمره القصير المحدود على وجه هذه الأرض أن يستوعب الشريعة والحقيقة والسُنة والمنهاج، ولا يجد نفسه في حاجة إلى سلوك تلك المضايق التي تنقضي الأعمار ولا تنقضي مسائلها وإشكالاتها والعدل الإلهي لا يكلف نفسًا إلا ما آتاها.
*****