أ.د/ طه جابر العلواني
قال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾(العنكبوت:67).
وقال تعالى:﴿ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(القصص:57).
لابد لنا من تحديد مفهوم الأمن، فمفهوم الأمن في القرآن المجيد مفهوم واسع، يبدأ من النفس الإنسانيَّة التي يزول قلقها أول ما يقع نظر الإنسان على الكعبة، فأول ما يقع نظر الإنسان إلى الكعبة يخالجه شعور بأنَّه قد بلغ أكثر نقطة أمانًا على وجه الأرض، يكفي فيها نسبتها إلى الله (جلّ شأنّه) فهي بيت الله الحرام،﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ..﴾ (المائدة:97).
أذكر أنَّني حججت حجة الإسلام حين كنت طالبًا في كليَّة الشريعة والقانون في القاهرة، ولم يكن عمري يحاوز –آنذاك-العشرين بكثير، وفي تلك الحجة الأولى بدأنا بالمدينة المنورة، وفي المدينة يختلف الشعور، فأنت تشعر بأنك ضيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّك تسير على أرض سار عليها، ومن المحتمل أن تواطئ بعض خطواتك خطوات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعض أصحابه، فمشاعرك وأنت في مدينة رسول الله مشاعر الجمال، والحب، والولاء، والعواطف الجياشة.
كان يعجبني وأنا في المدينة المنورة، أن أراقب الشمس حالة شروقها، ومن الصعب أن يصف الكاتب دقائق مشاعره وخلجات نفسه، وهو يلاحظ شمسًا كأنَّها غير الشمس التي عهدناها، فهي شمس رأت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورآها، فكأنَّها شمس خاصَّة، ليست التي نعرفها في أيّ مكان على وجه الأرض، وما من ذرة تراب ولا حصاة ولا سهل ولا جبل ولا ماء ولا شجر إلا وتحكي لك قصصًا وسيرًا لا تجدها في أسفار السير ولا في كتب التاريخ.
فالإنسان كأنَّه يُنتزع من واقعه ويُوضع بين أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، بين البدريين والأحديين، بين أهل بيعة الرضوان، بين أولئك الذين حملوا راية الإسلام لتنير ظلمات الأرض كلّها، فلم أكن أعيش في تلك الأيام القلائل أيام حياتي الراهنة بل هي أيام أخرى، مهما قلت لن أستطيع وصفها بدقة، وبعد أن انتهت الأيام الثمانية المقررة لإقامتنا في المدينة المنورة، مدينة الجمال بكل ما يحمل من معاني الحياء والتقوى ومهابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وحين تذكِّر نفسك بوصف هند بن أبي هالة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنَّك ترى الجمال مجسدًا فيه، والحياء يشع منه، والتقوى تفيض على البشريَّة كلها من بين شفتيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وغادرنا إلى مكة، ووصلناها ليلًا، وبمجرد أن وقع نظري للمرة الأولى على الكعبة وجدتني أجهش بالبكاء، وأردد بيتًا حفظته لا أتذكر من قائله:
هذه دارهم وأنت محب *** ما بقاء الدموع في الآماق.
فوجدت نفسي وجهًا لوجه أمام الجلال، جلال الله (سبحانه وتعالى)، فالحرمان حرم الله هو حرم الجلال، وحرم رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو حرم الجمال، وحين تخطو الخطوات الأولى في طوافك وتستذكر ماذا يعني هذا الحرم وماذا تعني هذه البنية المتواضعة، فإنَّك تنتقل إلى عالم آخر، كأنَّه غير عالم هذه الحياة.
ولقد طُورت بعد ذلك مباني الحرمين الشريفين، وما من حاكم في المملكة السعوديَّة إلا وحرص أن يترك أثرًا أو بصمة في خدمة الحرمين، وإضافة معلم من المعالم إليهما، ولكل منهما كان نصيب في التوسعة والتطوير والخدمة، وقد أفاض الله (جلّ شأنّه) على بلاد الحرمين من نعمه الكثير، إكرامًا لبيته، ومدينة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما خلى عام من الأعوام من تطوير، وزيادة في البناء، والخدمات، والإعمار.
ولقد شرفني الله (جلّ شأنّه) بعد ذلك بما يزيد عن عشر حجات، ودائمًا كنا نرى الجديد في الحرمين، على جميع المستويات، ولعل ما حفظ للمملكة أمنها واستقرارها رغم جميع العواصف التي عصفت في المنطقة هذه الخدمة، ولكن يبقى دائمًا لدى الأخيار مطمح إلى الأفضل وإلى الأحسن، فما يزال في الوسع القيام بالكثير الكثير في خدمة الحرمين الشريفين.
وهناك حوادث تعكر على الأمَّة صفوها، تحدث أحيانًا بناء على إهمال أفراد، أو تساهلهم في بعض الإجراءات، فما من عام إلا ويحدث فيه شيء في الإمكان تلافيه، لو التزم الناس بضوابط الأمن، وإجراءات السلامة، ومنها وقائع الحرائق التي كانت تحدث في منى، وحوادث الأنفاق، ومنها الحادث المؤسف الذي وقع نتيجة سقوط الرافعة الحديديَّة على حجاج.
فموسم الحج معروف بداية ونهاية، وأيام الذروة فيه معروفة، وأبناء مكة لهم خبرة في أيام الأعاصير ومواسمها، وكان من الممكن أن يحسب حساب هذه الأمور وتوقف الإنشاءات حتى انتهاء مناسك الحج، وتستبعد تلك الآلات الضخمة بأي طريق من الطرق من أماكن التجمع والزحام والطواف في الحرم الشريف، لكنَّنا لا نقول إلا ما يرضي الرب: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ونحتسب الذين قضوا نحبهم في ذلك الحادث بين الشهداء السعداء.
سائلين العليّ القدير أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وإهمال المهملين، ولا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنَّه سميع مجيب.
نسأله (سبحانه) أن ينظر لهذه الأمَّة بعين رحمته، وجانب لطفه، وفضله، ومنطلقات عفوه وعافيته، إنَّه سميع مجيب.