أ.د/ طه جابر العلواني
ذكرت الأرض في القرآن المجيد444مرة، وجاءت في سياقات عديدة، جاءت كثيرًا في إطار دليل الخلق على وجود الله ووحدانيته، وجاءت في معرض الحديث عن خلق الكون والحديث عن الإنسان وعلاقته به، ووصفت بأوصاف متعددة منها: المهاد والسُبل والفراش ومصدر النعم ومصدر الخلق والاستخلاف والعمران والفساد والإفساد، وحملت أوصافا عديدة، فوصفت بالحياة والموت والاهتزاز والربو والزيادة والنقصان، وجاءت في معرض ذكر بشر ملتزمين بالعدل لا يطففون بالكيل ولا بالميزان ولا بالفترات الزمنية التي يتعاهدون عليها مع الآخرين، كما في نحو قوله تعالى ﴿..وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ﴾ (هود:109)، وفي قوله تعالى: ﴿..ثم لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا..﴾ (التوبة:4)، ووصف عمر الإنسان بالنقص، وذكر النقص في معرض الابتلاء وفي معرض التشريع، وفي كل ذلك جاءت آيات كثيرة في سياقات عديدة.
ومما يلفت النظر بشدة ما جاء في قوله تعالى ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ (ق:4)، وقوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (الرعد:41)، حيث جاء في إطار بيان رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لرسالته، كما أمر وبين قدرة الله على أن يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، وعنده أم الكتاب، وأنّ على رسوله البلاغ، وعليه (جلّ شأنّه) الحساب، وجاءت كذلك في سورة الأنبياء ﴿ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الأنبياء: 44)، وجاءت بعدها آية منذرة بالوحي، تنذر هؤلاء الذين قست قلوبهم بطول الأمد، واغترت أنفسهم بطول العمر ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (الحديد:16)، فلم يلتفتوا إلى آيات الله وقدرته على نقص الأرض من أطرافها فهو الغالب في كل حال، حين قال الله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ﴾ (الأنبياء:45)، وجاءت في الآية الكريمة:﴿ ..وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾(فاطر:11).
ولكي نفهم المراد بصفة النقص المضافة إلى الأرض نحتاج إلى أن نستحضر الوحدة البنائيّة للقرآن الكريم، ونتتبع آياته الكريمة؛ لنفسر القرآن بالقرآن، ونتجنب أنّ نُسقط على القرآن شيئًا من خارجه، وهنا يمكن أن نستدعي حوار سيدنا إبراهيم (عليه السلام) وهو يكاد يستقرئ أهم المخلوقات في الكون: النجم والشمس والقمر، ثم ينتقل منها بعد أن اكتشف نقصها وأفولها، فمجرد غيابها أو أفولها دليل على نقصها، ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: 76-78).
والأرض آفول من هذه الناحية ينقصها ربي من أطرافها، فلا تتصف بالكمال الذي يجعلكم تنشغلون بها، وبما تستخرجونه منها، وبما قدَّره الله لكم من أقوات، ومياه تحتفظ بها في باطنها ومعادن كثيرة، هي ليست من خلقها، ولا من إيجادها، بل هي مخلوقة مثلها، عاجزة مثلها، آفول معرضة للنقص والانتهاء مثلها.
في الوقت نفسه تستدعي هذه الآيات قول الله (جلَّ شأنه)﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حتى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(يونس:24)، وكذلك قوله تعالى: ﴿أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يتوفى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ (الحج:5-6).
إذًا فالأرض يمكن أن تظهر في زينتها كاملة مزخرفة مزينة، تدفع أهلها بالغرور، والإحساس أنهم يقدرون عليها، ويخلّدون فيها، وينسون الخالق الذي خالقها، فيفاجأها ويفاجأهم الله (جلَّ شأنّه)، فتصبح حصيدًا كأن لم تغن بالأمس ﴿ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾ (يونس:24)، فكما أن كمالها وتمامها وجعلها سبلا وفجاجًا ومهادًا وبيتًا للإنسان متكاملا، يبهج القلب، ويشرح الصدر، فالذي جعلها كذلك هو نفسه القادر على أن يجعلها حصيدًا ،كأن لم تغن بالأمس، وهو الذي ينقصها من أطرافها لحساب المياه، فتزداد مساحات الأرض المغمورة بالمياه على مساحات اليابسة وحالات التصحر وحالات قلة المياه الصالحة للشرب، وأن الله (جلَّ شأنّه) هو الذي أخرج منها ما أخرج، وأخرجنا منها، ولها يعيدنا، ومنها يخرجنا تارة أخرى ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾(طه:55). فإذا أحسنّا الإيمان سوف نلبي دعوة الله إلى دار السلام، وهو الذي يهدينا آنذاك الى صراط مستقيم.
ومن الثابت علميّا أن الأرض قد بدأت منذ القدم بمحيط عام، ثم بتحرك ألواح الغلاف الصخريّ الابتدائيّ للأرض، وبدأت جزر بركانية عديدة في التكون في قلب هذا المحيط الغامر، وبتصادم تلك الجزر تكونت القارة الأم التي تفتت بعد ذلك إلى العدد الراهن من القارات، وتبادل الأدوار بين اليابسة والماء هو سُنة أرضية تعرف باسم “دورة التبادل بين المحيطات والقارات”.
فنقص الأرض من أطرافها سواء بزيادة نسبة المياه واستيلائها على اليابسة، أو بعوامل التعرية المختلفة التي تحدث تغييرات لا يعلمها إلا الله، والذين أتاهم الله علمًا في هذه الأمور من العلماء، فكل ذلك يصلح أن يكون دليلا من أدلة قدرته على إعادة الخلق، وبعث الناس ونشورهم، ومحاسبتهم، فلا يدفعن ما يظهر للأعين المجردة على الأرض من صلابة، واستقرار في دعم تصورات الكفار والمشركين، فالذي خلق الأرض ومن عليها هو الذي وضع لوجودها نهاية وقال (جلّ شأنه) ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ (إبراهيم:48)، والله نفسه الخالق العظيم الذي ينقص الأرض من أطرافها، ولا معقب لحكمه ولا أحد يسبقه، أو يتغلب على قدرته (جلَّ شأنّه).
وأمَّا ما ذكره جل المفسرين من أن نقص الأرض من أطرافها يعنى نقص أرض الكفار وضمها الى دار الإسلام فهو لا يصلح أن يكون تفسيرًا لهذه الظاهرة الكونيّة العجيبة؛ ولذلك فإنّ علماء الجيولوجيا أقدر على فهم هذه المعاني من أصناف العلماء الآخرين، فإذا بالآيات التي جاء فيها قوله (جلّ شأنّه) ﴿ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ (الرعد: 41)، يراد بها الإشارة إلى آية من آيات علم الله المحيط الشامل، وإلى دورة التبادل بين المحيطات والقارات، والسياقات تساعد على هذا الفهم وتؤيده، أما قوله تعالى ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ (ق:4) ففيها إشارة – والله أعلم – إلى سكان الأرض – كما في قوله تعالى – “اسأل القرية” أي أهلها . فنقصان الأرض بنقصان أهلها إشارة إلى الوفيات، وإشارة إلى ما يعود إلى الأرض من جسم الإنسان، فالموت لا يتلف شيئا؛ لأن كل ما في الجسم الإنسان يعود إلى دورة الحياة في أشكال مختلفة .. والله أعلم.