أ.د/ طه جابر العلواني
تلقيتُ من أخي وصديقي العزيز الدكتور/ ناجي الحاج الطاهر هذه الرسالة، يبين فيها بعض ما أوصله تدبره للآيتين الكريمتين﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾(الشرح: 7-8) وآية نقص الأرض﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ۖ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴾(ق:4)، وهو تدبر محترم وفيه نفحات قرآنيّة، وددت نشرها ضمن سلسلة التدبر ليعلم جميع الإخوة والأخوات المشاركون في التوجه إلى تدبر القرآن وتفسير القرآن بالقرآن أنَّ هذا القرآن كم هو كريم، لا يبخل على أحد يقصده بكرمه وعطائه.
فلنأخذ من تدبر الدكتور ناجي درسًا في التدبر من ناحية، وشكرًا لنعمة الله (جلّ شأنّه) على التمكين من التدبر، وعلى جعل القرآن المجيد ميسرًا للمتدبرين وكريمًا في عطائه لهم؛ ولذلك أحببتُ أن يشاركني كل زملائي وتلامذتي المتدبرين في سائر أنحاء الأرض وهم الماهدون -إن شاء الله- الذين يمهدون السبيل بتدبر القرآن؛ لتزكية الأمَّة وتطهيرها من الفتن وإعادة بنائها على أقوى الدعائم وأزكاها، فلا يبخل أحد في مشاركة إخوانه وأخواته في سائر أنحاء الأرض بما يجود عليه القرآن من نفحاته، وما ييسره فائض القرآن (جلّ شأنه) له من معانيه، وتجربة الأخ الدكتور/ ناجي الحاج الطاهر في هذا المجال تجربة غنيّة.
أرجو أن يكون نَشري لها حافزًا لنا نحن المتدبرين للسير على هذا السبيل والمراكمة عليه، فالقرآن هو المنقِذ، وهو الرسول المقيم الذي لا يضل من أتبعه، ولا يضل من اهتدى به.
فمعكم تدبر أخي الدكتور/ ناجي. أرجو من جميع المتدبرين أن يقرأوه بعناية ويقدموا لنا، ويتبادلوا فيما بينهم هذه الخبرات والتجارب.
– فقد أنصبت جهود المفسرين على فكرة موت الإنسان، وعودته إلى الأرض، وأنّ الله (سبحانه وتعالى) يعيده إلى الحياة بعد ذلك ولكن دون دليل. واستبعد ابن عاشور أن تكون عودة الإنسان إلى الحياة عبر جمع المكونات التي كانت مشكَّلة له عند موته، وحُجته في ذلك أن تلك المكونات، بعد تلاشيها في الأرض، تكون قد مرت إلى مخلوقات عديدة أخرى، ومن ثم فعودة الإنسان تكون بمكونات الأرض وليس بالضرورة تلك التي كانت جزء منه يوم موته.
فكرتي التي أردت أنّ أناقشها، هي شيء آخر، وهي تعتمد على إطار معرفيّ آخر لفهم القرآن الكريم ومنها: أنّ القرآن الكريم يستعمل تداخل الصور؛ لإيصال معانٍ مركبة ومتداخلة تساعد على اكتشاف مكنونه كلما تم اكتشاف ذلك التداخل، ومن ثم يتكشف باستمرار على قدر طاقة استيعاب كل منا زمانًا ومكانًا لما هو مكنون بالقرآن الكريم من معانٍ. فإحداث تداخل للمعاني التي توحي لها الكلمات لرؤية معان متعددة تعطي فكرة أكثر شمولا واتساعًا متعدد الأبعاد لما يريد القرآن العظيم إيصاله.
لنأخذ على سبيل المثال: “فإذا فرغت، فانصب، والى ربك فارغب”. حيث تحتوي “فرغت” معنى “انتهيت مما أنت فيه” وفي نفس الوقت تحتوي على معنى “الفراغ الناتج من جراء ذلك”، وفي المجال الوجداني يكون لذلك الفراغ خطر كبير على الإنسان، يدعوه إلى الانتباه والعمل على تجاوزه. ومن ثم تعطي “ولربك فارغب” وجهة النصب العامل على تجاوز الفراغ الناتج عن تحقق الوصول إلى الغاية.
وتلك حالة خطرة جدًا على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ، وتأخذ أوجها على المستوى الحضاريّ، حيث يؤدي الوصول إلى غاية الحركة إلى فراغ هائل يستدعي تجديد وضوح القبلة وتمكين الأمَّة من مواصلة السير موحدة في إتجاهها. وتلك من أهم الصعوبات التي نواجهها اليوم كأمَّة فيما يخص الاجتماع الإسلاميّ، كما أن نفس الأمر حاصل في الاجتماع الغربيّ، غير أنَّه يرتبط بتحقق غاية الدخول في العالم وليس غاية الخروج منه. كما تحمل ” ولربّك فارغب” معنى السرعة، وفي نفس الوقت توحي بضرورة توجيه عالم الرغبة؛ ليكون الله قبلتها لتجاوز الفراغ الناتج عن الخضوع لها. ومن ثم ففكرة الصورة المتداخلة التي يوحي بها الوحي الموحى مهمة في فهم القرآن، والوقوف على المعاني المركبة المكنونة؛ حتى تتضح الصورة الكبرى الجامعة لتلك الصور المتداخلة جميعا.
ولنعد الآن إلى الآية 4 من سورة ق المجيدة، حيث بدى لي معنى آخر يمكن أن يُحتج به إلى إمكانية البعث بأكثر سهولة. فالله أنبتنا من الأرض نباتًا كما جاء في الآية الكريمة﴿ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾(نوح:17)، ومن ثم يمكن أن نفهم من الآية الكريمة الرابعة بسورة ق، أنَّ الأرض هي التي تنقص هنا في المرحلة الأولى من دخولنا عالم الحياة، ونحن ذلك النبات الذي يجسد ما نقصت من ترابها. أي أننا ما ننقص من الأرض خلقًا من بعد خلق حتى تم تركيبنا على الصورة التي أرادها سبحانه وتمت تسويتنا. وإن أمكن لنا ذلك الفهم فإنّه يكون حُجة كبيرة على إمكانية البعث، ذلك أن البعث المكذّب به من طرف منكريه ليس إلا خلق الإنسان من تراب، وهو أمر حاصل بالفعل. أي إننا داخل هذه الحياة كل منّا يخلق من تراب، وقد تمكن الرازي من رؤية ذلك بما أوحى به القرآن الكريم؛ ليخلصه من التصور القديم الذي عليه رواية الكتاب المقدس، حيث جعل ذلك مرتبطًا بآدم عليه السلام.
غير أنّ القرآن يُصدق على ما قبله من الكتاب، ويهيمن عليه بتوسع فكرة الخلق من تراب.
والمعروف اليوم أن الخليّة الأولى المتشكَّلة مما وصل من نصفيها من الأم والأب على أخذ التراب إلى مستواها؛ حتى تستطيع بعد ذلك إلى أن تتعدد، ثم يتم أخذ المجموع في رحلة خلق من بعد خلق حتى إنشاء الإنسان، ذلك الخلق الآخر العجيب، ﴿.. فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾(المؤمنون:14). ومن ثم عند رؤية ذلك المعنى يصبح التكذيب بالبعث لا معنى له. والسبب في ذلك أنَّ الخلق الأول هو أكبر دليل على إمكانية الخلق الثاني كما جاء بسورة طه آية 55﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ﴾، وكذلك ما ورد بسورة البقرة آية 28 ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. ذلك أنَّه لا يمكن أن يحتج بما هو قائم بالفعل على عدم إمكانية حدوثه مرة أخرى. وذلك معنى يستدل به القرآن الكريم كذلك عند رده على ما جاء في سورة يس﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾(يس:78)، بقوله تعالى:﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾(يس:79).