أ.د/ طه جابر العلواني
وصف الله –سبحانه وتعالى-القرآن المجيد بأنَّه:﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾(هود:1) بحكمة الحكيم (جلّ شأنّه) وخبرة الخبير (تبارك وتعالى) أحكم بناء كل آية من آيات الكتاب الكريم، فإذا تدبرته رأيت بناءً متقنًا بالغ الإتقان “ولله المثل الأعلى” حين يكلف أحدًا من رسله أو تتعلق إرادته بشيء فإنّه –جلّ شأنّه-يجعله بناءً يتحدى به الآخرين ليثبت أنَّه صنع الله لا يستطيع أحد أن يرقى إلى مثل مستوى مهارته وإتقانه فيما يصنع –تبارك وتعالى.
وفي هذه الحالة تستطيع أن تتصور إلى أيّ مدى سوف يتقن البناء ويُحكمه ويمنع عنه كل ما يمكن أن يسمح لأحد بأن يرقى إلى ذلك المستوى أو يدخل أي خلل في البناء فالله (تبارك وتعالى) وله (جلّ شأنّه) المثل الأعلى ذو الحكمة المطلقة والخبرة المطلقة، أحكم هذا الكتاب آية آية، بحيث لا يكون في أيّة آية منه خلل على أيّ مستوى من المستويات؛ ولذلك فإنّ من المستغرب جدا أن يطلق البعض أقوالًا غثيثة حول بعض آيات الكتاب، أو كلماته كالزعم بوجود قراءات شاذة، أو كلمات لا تتمتع بالفصاحة العليا، أو آيات يكون مستوى البلاغة فيها موضع أخذ ورد كتلك التي كتب في مثلها الكاتبون فيما تناولوه مما أسموه بمشكل القرآن أو غريبه أو نحو ذلك.
والآية التي معنا نص لا يحتمل أي تأويل في أنَّ الكتاب الكريم كله قد أحكمت آياته، فقد أضيفت كلمة آيات بهذا اللفظ بدون تعريف إلى الضمير، وهذا النوع من الإضافة يفيد العموم لغة، فكأنَّه قال: “أحكمت كل آياته بدون استثناء” فما من آية من آياته إلا وقد أحكم بناؤها، وبعد إحكام البناء وإتقانه وجعله متحديًا معجزًا في القوة، والمتانة، والمنعة، والبلاغة، والفصاحة يأتي دور التفصيل، والتفصيل مأخوذ من “الفصل” وفصل بمعنى ميّز جزءً عن كل، وهذا التفصيل أو ميز الأجزاء عن بعضها له وسائله وأدواته، فالخياط يفصِّل الثوب على البدن فيجعل منه ما يخص الذراع والكتف وبقية أعضاء الجسم بعد أن كانت قطعة واحدة متصلة.
فيخبرنا الباري (سبحانه وتعالى) في هذه الآية أنَّ هذا الكتاب الكريم قد أحكم –سبحانه- فيه كل شيء، وحين تكون فيه أحكام أو وصايا أو أمثال أو قصص أو أي شأن يعلم الله –سبحانه وتعالى- فيه الحاجة إلى التفصيل فإنه يقوم بتفصيله بعد ذلك، ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (الأنعام:119)، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ (الأنعام:57)، ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ (الإسراء:12) والإنسان قد لا يتمكن من فهم ما أحكم إذا اشتمل على عديد من الأمور فيفصّل الحكيم الخبير ما أحكم ليكون في مقدور الإنسان فهم ذلك وإدراكه، وبالتالي فالآية الكريمة نص في إحكام الكتاب أولا ومجيئ التفصيل في مرتبة ثانية فلا يسبق التفصيلُ الإحكامَ، والقرآن كلّه دون استثناء أحكمت آياته ثم فصِّلت، فما من آية يمكن أن يقال فيها أي شيء ينافي ذلك الإحكام، والتفاصيل ترجع إلى ذلك المحكم وتردّ إليه، وهو الحاكم عليها، القاضي باندراجها أو عدم اندراجها تحت البناء، هذا شأن الكتاب وتلك صفته.
فمجيئ بعض المتطفلين اليوم الذين لو كلفت أحدهم بإلقاء كلمة أو خطبة لمدة معدودة الدقائق لارتكب من الأخطاء ما الله به عليم، يأتي مثل هؤلاء المتطفّلين اليوم ليقول بعضهم في القرآن ما يقول، في محاولة للتفلّت من اتباع هذا القرآن والتمرد عليه بوسائل أخرى وتنكب سبيله، والزعم بأنَّ له باطنًا وظاهرًا، وأنَّ الظاهر هنا غير مراد والباطن هو المراد أو العكس، وأنَّه ذو معان متحركة والحكم في مراده منها يعود إلى الإنسان القاصر وعقله وثقافته وسقفه المعرفيّ وعلوم العصر التي تفجرت فيه، إلى غير ذلك من مقولات غثيثة يرددها البعض على أنّها أفكار وصلوا إليها بعد جهد جهيد، وما هي في الحقيقة إلا خواطر شيطانيَّة تحاول أن تركب المركب الصعب؛ لتنال من إحكام القرآن أو تفصيله.
ولو أنَّ أهل القرآن التفتوا بما يكفي لهذه الآية الكريمة وحدها لأدركوا تهافت هذه الأقوال قديمها وحديثها، ففي القديم زعم من زعم: أنّ إعجاز القرآن إّنما ثبت “بالصِّرفة” أي: أنَّ الله صرف العرب وغيرهم ممن تحداهم القرآن عن الاستجابة لذلك التحدي والإتيان بمثله، ولو أنَّه –جلّ شأنّه- لم يصرفهم ولم يكبلهم بنفسه لتمكنوا من الإتيان بمثله وهكذا، والتالون للقرآن المتدبِّرون له المنطلقون من معرفة بخصائصه وإيمان به لا تجوز عليهم مثل هذه الترّهات التي يرددها بعض من يزعمون أنَّهم متفلسفون من بقايا سوفسطائيَّة الماضي والطاعنين على القرآن فيما سبق والذين جاء من يحاول أن يحيي مطاعنهم ويقدمها من جديد بلهجات معاصرة وأساليب مستحدثة، ويعرضها على الناس على أنَّها فكر وفلسفة واجتهاد، وأنَّ معاني القرآن تتغيّر بتغيُّر العصور والأجيال وتتحرك بتحركها وتؤدي في كل عصر دور الداعم المسوغ لثقافة العصر ولانحرافاته كلّها. إنَّ هذه الآية الكريمة قول فصل لا يسمح لمثل هؤلاء الطاعنين المتطفلين أن يسبحوا في هذا الفضاء، فضاء الإحكام والتفصيل.
الحل هو ما ذكرته من الإصرار على التدبر والقيام به باعتباره الفريضة التي فرضها الله علينا والتي لا يقبل منا غيرها ولا شك أن هناك سلبيات ولكن بسبب الانحراف في ممارسته أو عدم تواتر شروط الممارسة الأخرى من تنظيف العقول والقلوب والآذان من الوقر والقسوة في القلوب والعشو في الابصار وما إلى ذلك مما تناولناه تفصيلا في بحوث ومقالات أخرى