Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

فقه التديُّن وإشكاليَّاته

أ.د/ طه جابر العلواني

ينزل الماء من السماء غيثًا طاهرًا نقيًّا صالحًا للحياة، ولإعمار الأرض، ولبث الحياة في كل كائن حي، ويخرج من ينابيع الأرض، ويتحدر من عيون في الجبال، وهو أصفى وأنقى ما يكون، فإذا تجمع في الأرض وسالت به الأودية حمل من الغثاء ما حمل، فتجده في كثير من الأحيان قد تحوَّل إلى ما يشبه الطين، وقد تجد فيه أجساد حيوانات نافقة، وأشجار قد ماتت وسقطت من نفسها، تجرفها تلك السيول، فتضيف إلى كدر الماء وطينه عناصر جديدة من ذلك الغثاء، إلى أن يصبح غير صالح للشرب، ولا لإنبات الحياة، أو إدامتها، فيعمد الإنسان إلى أخذ ما يحتاج منه وإخضاعه إلى عمليَّات تصفية وتنقية متنوعة؛ ليعيده إلى طبيعته الأصليَّة، مصدر حياة، نقيًّا، صافيًا، ومع ذلك فَقَلَّ ما يعيده إلى طبيعته الأصليَّة التي نزل بها غيثًا من سماء، أو عيونًا وينابيع من الأرض والجبال.

والدين مثل ذلك الماء، ينزل الوحي به إلى النبيين والمرسلين طاهرًا صافيًا نقيًا فاعلًا ومؤثرًا، قادرًا على تعليم الإنسان مهمته الاستخلافيَّة، وتذكيره بعهده، وائتمان الله له، وابتلائه، واختباره، ثم مجازاته، وهو في ذلك كله لا طين فيه ولا كدر، لكنَّه بعد أن يحل في عقول البشر وأنفسهم سرعان ما يُحمَّل بأتربة وأطيان وإشكالات وانحرافات تجعله يفقد نقاءه، ويجاوز صفاءه، ويصبح التعبير عنه بفهم وفكر بشري، يتفاوت في ضعفه وقوته وصوابه وخطئه وصحته ومرضه، وآنذاك قد تتغير وظائفه، وتتبدل آثاره، فبدلًا من أن يكون رافعًا للحرج يتحوَّل إلى جالب للحرج، وبدلًا من أن يكون شفاءً لما في الصدور يصبح مرضًا يفتك في صدور الكثيرين، وبدلًا من أن يكون نورًا للعقول قد يتحوَّل إلى نوع من الظلمة والكدرة لها، عندما يساء الفهم أو ينحرف، أو تحيط بذلك النبع الصافي أكدار المصالح وأطيان المفاسد؛ فيضطرب الفهم وينطفئ النور.

أذكر أنَّ أول شيخ درست عليه في صبايا ومراهقتي كان اهتمامه مركزًا على إطلاق اللحى، وارتداء الملابس الداكنة الخشنة الرخيصة جدًا، وختان البنات، ومقاومة تقاليد الناس في الأعراس، ومجالس العزاء، ودفن الموتى، فكان اهتمامه مركز على هذه القضايا، وقد يراها الدين كله، فانطلق يعلم الكبار والصغار في خطب الجمعة، ومجالس الوعظ وحُلق الذكر والدروس الفقهيَّة هذه القضايا، لا يكاد يخرج عنها، وكان الناس يستجيبون له مرة، ويتمردون عليه مرات، ويقبلون ويرفضون، لكنَّه لا ييأس، وكان يسكن معنا في الفلوجة في تلك الأثناء بضعة عوائل من الصابئة، ومتدينوا الصابئة ألفوا أن يطلقوا شعورهم كما يفعل الهنادك، ومنها شعر اللحية، وكنت وهو -أعني شيخي- نازلين إلى النهر للوضوء؛ لانقطاع المياه في المسجد، وصادفنا بعض الصابئة بلحاهم الطويلة، وقد ألفنا أن نراهم في الصباح والمساء يأتون لممارسة بعض العبادات الخاصَّة بهم عند شاطئ نهر الفرات، وإذا بشيخي يلتفت إلى شيخ الصابئة أبي حيدر -وهم طائفة يقال: إنَّ أصلهم من النصارى ثم حرفوا نصرانيَّتهم، وحذفوا وأضافوا ليكون لهم دين خاص بهم، هو هذه الصابئة، وقيل وقيل في أصولهم كثير- المهم أنَّ شيخي نادى على شيخ الصابئة وقال له: ما شاء الله إنَّ وجهك صبوح، وإنَّ لحيتك معافاة، لم تنلها بتعديل أو تبديل وتركتها على السنَّة، ولا ينقصك لتكون مسلمًا إلا أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول، فنسي شيخي -غفر الله لي وله- كل ما بقي أمام تلك اللحية اللطيفة.

وإذا ذهبنا إلى زيارة أحد من أهل البلد، وأطلَّت علينا طفلة صغيرة قد لا تتجاوز السنة الثالثة من عمرها، يسارع شيخي ليسأل أباها أختنتموها أم لا؟ فإذا قال له: لم نفعل. قال: ألم تعلم أنَّ الختان واجب. وهكذا تعاظمت عنده بعض خصال الفطرة، لتصبح في نظره تعبيرًا عن الدين كله.

 ودعاة الإسلام اليوم من الطوائف المختلفة، والفرق المتنوعة، والأحزاب الكثيرة، نجد كثيرين منهم ينادون بشموليَّة الإسلام، وعمومه، وعالميَّته، وعند التحقيق نجدهم يقفون عند قضايا معينة ويركزون كل اهتمامهم عليها، حتى يصبح المتابع لهم يرى فيهم أنَّهم قد انحصر فهمهم للدين وفقههم للتدين بتلك القضايا المعدودات، وذلك انحراف كبير عن فهم الدين وعن فقه التدين؛ ولذلك وجدنا أبا الطيب المتنبي يشير إلى هذه الظاهرة في القرن الرابع والخامس الهجريين بقوله:

أغاية الدين أن تحفوا شواربكم ** يا أمَّة ضحكت من جهلها الأمم.

وقال آخر ساخرًا، ونرجو ألا يفهم أحد خطأ ويعتبر هذه السخرية من السنَّة؛ لأنَّها ليست من ذلك، بل هي سخرية من ذلك الذي يحصر الدين ومصادره، والهدي النبوي وسنته في تلك المسائل البسيطة التي لا تتجاوز أن تكون جزءً من خصال الفطرة، يقول ذلك الشاعر المتخابث:

ألا ليت اللحى كانت حشيشًا *** فنعلفها خيول المسلمين.

لكن هناك أناس تستحق لحاهم كل الاحترام، فناظم باشا أحد الولاة العثمانيين في العراق تآمر عليه خصومه وأغروا صدر السلطان عليه، وأقنعوه بأنَّ ناظم باشا يعمل لترسيخ قدمه في العراق، وأنَّه يفكر بالاستقلال به عن السلطنة، فعزله السلطان، ومعروف أنَّ السلطان حين يشعر بتهديد من أحد فإنَّه يبادر إلى محاصرته وعزله، حتى لو كان أقرب الناس إليه؛ ولذلك سارع السلطان إلى استدعائه إلى استنبول وإقالته بعد أن قام بتحريات عاجلة سريعة لم تتسم بالدقة اللازمة، وبعد فترة اكتشف السلطان أنَّ ما نسب إلى وليه على بغداد كان مجرد حسد أقران، وأنَّه قد تعجل بعزله، فاستدعى الرجل وقال له: ارجع إلى بغداد واليًا، فاعتذر ناظم باشا وقال: حياتي العمليَّة انتهت، ولا أرغب بممارسة أيَّة وظيفة، فقال له: إذن اطلب شيئًا أستطيع أن أعوضك فيه عما حدث لك. قال: أطلب أن تسمح لي بأن أجاور قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة، وأن يُعهد إليَّ بكنس التراب عن القبر، على أن يكون ذلك بلحيتي، وأطال الرجل لحيته وجعل منها مكنسة يكنس بها التراب عن القبر الشريف حتى مات.

 ومعروفة قصة هارون الرشيد حين تمرد عليه وثار عمه عيسى، فحاول الرشيد جلبه لإعدامه، وبعد أن فشلت محاولته، وفر عيسى هائمًا على وجهه وانتهى به المطاف في خرسان من بلاد العجم، ذات يوم شعر المأمون أنَّ أباه يجلس مسترخيًا وفي حالة صفاء، فرأي أن يتوسط عنده لعمه عيسى، لعله يعفو عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين إنَّ عيسى مهما فعل فهو عم أمير المؤمنين، وقد بلغني أنَّ الرجل مريض، وقد يقضي مرضه عليه في أيَّة لحظة، فلو عفوت عنه يا أمير المؤمنين، وأعدته ليكون بجوارنا آخر أيامه، وإذا مات يموت بيننا؟ فالتفت إليه الرشيد وقال: يا بني إنَّ الملك عقيم، ووالله لو تطلعت عيناك إلى ما أنا فيه -وأشار إلى كرسيه كرسي الخلافة-لأخذت الذي فيه عيناك، فأدرك المأمون الدرس، وفهم؛ ولذلك حين حاول الأمين تنحيته عن ولاية العهد، وإبعاده عن الخلافة والملك؛ سرعان ما ثار عليه، وسلَّط عليه طاهر بن الربيع ليقوم بسحله من الرصافة إلى الكرخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *