Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

استراحة محارب

أ/د. طه جابر العلواني

ذكر بعض من يتعاملون معي ويعينوني فيما أنا فيه أنَّني حتى في أيام الأعياد لا أشغلهم إلا بما يؤدي إلى شيء من الكآبة، بحيث حذرني البعض بأنَّه قد لا يصبر على ذلك كثير، فقررت أن أتوقف في هذه المقالة القصيرة عند شيء من الجمال والملح، وقد اعتدت منذ الصغر أن أروح عن نفسي بقراءة بعض القصص التي تدور حول شيم العرب، أو بعض أبيات الشعر التي أنتقيها، إمَّا لبلاغتها أو فصاحتها أو جمال التصوير فيها، أو ما تشتمل عليه من معان وحكم، فأذهب إلى نهج البلاغة أحيانًا، وإلى ديوان المتنبي أو مقابسات التوحيدي، أو الإمتاع والمؤانسة له، أو إلى المستظرف من كل فن مستطرف، وما شابه ذلك، غير غافل عن قصص القرآن المجيد وتدبر بعض أمثاله.

وحين وافق من معي على هذه الاستراحة، بدأت استحضر من الذاكرة شيئًا من ذلك، فحضرتني قصة في الوفاء وتمثل صورة من صور الجمال حدثت في عهد هارون الرشيد وبعد نكبة البرامكة، أنَّ الرشيد لشدة انزعاجه من جعفر البرمكي أمر من يلاحظ قبره، ويأتيه بكل من يزوره من غير أقاربه، فذات يوم جاء الذين يراقبون القبر من الشُرَط إلى هارون الرشيد بشيخ مسن، وأخبروه أنَّهم قد وجدوه يبكي عند قبر جعفر البرمكي، فقال له الرشيد: يا هذا، ألم تدري ما فعله البرامكة، ألم يزعجك أنَّهم أوصلوا الدولة إلى مرحلة الانهيار، ألم ألم .. إلخ؟. فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما غفلت عن هذا، ولكنَّني أرجو أن تعطيني الأمان لأخبرك بالأسباب الحقيقيَّة لحبي لجعفر. فأعطاه الأمان. فقال له: يا أمير المؤمنين كنت تاجرًا معروفًا في بعض هذه النواحي من ملككم، وفجأة خسرت تجارتي كلها في كارثة حلت بي، وركبتني الديون والهموم، وبعت كل ما أملك، ولم يفِ ذلك، ولم يكفِ لسداد ديوني، وفيما أنا في غمي وهمي زارني بعض معارفي في زمن الرخاء، وقال: يا هذا، ألا أدلك على من يستطيع أن يساعدك ويعينك وينقذك من سائر ديونك، وقد يعيدك كما كنت وأحسن. فقلت: عجل بذكره يا رعاك الله. فقال: إنَّه جعفر البرمكي. قلت: وكيف أصل إليه؟ قال: اذهب إلى بغداد ولن يخفى عليك منزله، فالعامَّة والخاصَّة يعرفونه، وقد لا تحتاج إلى سؤال لكي تعرف أنَّ هذا هو قصر جعفر لو سرت على شاطئ دجلة. يقول الرجل: فذهبت إلى بغداد، وكان المساء قد أظل، وشمس الأصيل تودع بغداد، فذهبت كما وصف لي الرجل، وإذا أنا بقصر منيف، قد ملأته الأنوار، فأسرعت إلى مدخله، ووجدت الناس في زحام للدخول، فدخلت مع الداخلين، فسمعت موسيقى وغناء ورقصًا، وعلمت أنَّ جعفر يزوج أحد أولاده، وأنَّ هذه ليلة زفافه، وبعد قليل جاء جعفر وولده ووزع على الحاضرين جميعًا وأنا منهم بِدر من المال -أي علبة يوضع المال بها- وكان في كل بدرة ألف دينار، فتهامس الحاضرون بأنَّ فيها ألف دينار، وعلمت بأنَّه صار عندي ألف دينار بلا مسعى مني ولا غيري أن أكلم أحدًا، وبدأ الضيوف بعد الانتهاء من الحفل بالانصراف، وبقيت جالسًا، وإذا بجعفر يأتي إليَّ بنفسه ليسألني ماذا يا عم، هل لديك حاجة؟ قلت، نعم والله، وقصصت عليه قصتي. فقال الرجل: لك ما فقدت ومثله معه. وبالفعل صار بين يديَّ ما فقدته ومثله معه، ثم نادى على ولده الذي كان يحتفل بعرسه. وقال له: يا بني هذا عمك فلان من الناحية الفلانيَّة، حدث له كذا وكذا، وفقد أمواله، وقد قدمت له كذا وكذا، تعويضًا عما فقد، فماذا تقدم أنت وقد شرفك بحضور عرسك، ومشاركتك فرحتك؟ فقال: يا أبتاه مثل ما دفعت وأقل بمائة دينار؛ لكي يبقى لك النصيب الأوفر في مساعدته. شكرتهما، وخرجت والله أغنى مما كنت ثلاث أو أربع مرات، وذهبت مسرعًا فرحًا أحاول أن أطوي الأرض طيًّا لأصل إلى عيالي، وما إن أصبح الصباح حتى وفيت كل ديوني، وأعدت فتح تجارتي، واتصلت بالتجَّار لأبيع وأشتري بأكثر مما كنت عليه قبل نكبتي، ثم علمت بما حدث لجعفر، وحاولت الحضور لأراه قبل إعدامه فما استطعت، فوجدت أنَّ من الواجب عليَّ أن أزور قبره بين الحين والآخر لأذرف شيئًا من الدموع، لعل في ذلك شيئًا من الوفاء بحقه، حتى ألقى عليَّ حرسك اليوم القبض، وساقوني إليك.

 قال له هارون: ماذا لو أعطيتك ضعف ما كان جعفر قد دفعه إليك وولده؟ فدعى لأمير المؤمنين وشكر، ثم قال: يا أمير المؤمنين أتعطيني الأمان لأقول كلمة؟ قال: قل ما بدى لك. قال: يا أمير المؤمنين إنَّ منَّتك هذه، وفضلك الكبير عليَّ لهو بعض أفضال جعفر حتى وهو في قبره، فلولا بكائي على قبره ورؤية حرسكم لي أكنت يا أمير المؤمنين تدفع لي كل هذا المال؟ فتبسم الرشيد وقال: بوركت من وفى، وبارك الله في أمثالك. فهذا نموذج من جمال الوفاء.

ثم انتقلت إلى الشعر، لأجد أنواع أخرى من الجمال، فوجدت عنترة ابن شداد يصف حبيبته السمراء عبلة ويقول، وما أبدع ما قال:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل *** مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنَّها ** لمعت كبارق ثغرك المتبسم.

إنَّ المعاني الجميلة في هذين البيتين أجمل من سمفونيَّة حب يقدمها فنان بارع.

ويقول عنتر نفسه وهو يصف الذباب، نعم الذباب:

وخلى الذباب بها فليس ببارح *** غَرِدا كفعل الشارب المترنم

 هزج يحك ذراعه بذراعه *** قدح المكب على الزناد الأجذم

 تمسي وتصبح فوق ظهر حشية ***وأبيت فوق سراة أدهم ملجم.

فتصوروا هذا الذباب الذي نستقذره يمنحه عنتر تلك الصورة باستعارته اللطيفة، بحيث يفرض علينا أن نتصور هذه الذبابة وهي في حالة الفرح وفي حالة الحزن، وكيف تعمد إلى التغريد وإظهار الفرح إلى آخره. والتشبيه في غاية الروعة وفي غاية الدقة.

 ثم تذكرت فتاوى ظرفاء أهل العلم في شعر أحدهم وهو يقول:

سل المفتي المكي هل في تازور *** وضمة مشتاق الفؤاد جناح

فقال معاذ الله أن يذهب التقى *** تلاصق أكباد بهن جراح.

وقد نذهب إلى من سأله سائل عما قد يكون عنده من حرج في وصل من يحب، وبطبيعة الحال نتمنى أن يكون هذا في حب زوج لزوجته، فيسأله عن الوصل فيقول ذلك المفتي الظريف:

صل من هويت ودع مقالة حاسد **   ليس الحسود على الهوى بمساعد.

لم يخلق الرحمن أجمل منظرا         **     من عاشقين على فراش واحد.

يا من يلوم على الهوى أهل الهوى ** هيهات تضرب في حديد بارد.

وذكر الشيخ المرصفي في كتابه أنَّه روي أنَّ بعض أتقياء الحجاز وعُبَّادهم رأي بمنى امرأة ذات حسن فائق، وجمال رائق، وهي ملقية على وجهها بردًا مهلهل النسيج، مظهرًا لمحاسنها، فقال: يا هذه اختبئي. فقالت له: أنا من اللواتي قال فيهن عمرو بن ابي ربيعة:

أماطت رداء الخز عن حر وجهها *** وألقت على الخدين بردًا مهلهلا

من اللائي لم يحججن يبغين جنة *** ولكن ليقتلن التقي المغفلا.

فقال: اللهم لا تعذب هذا الوجه. ومضى. فبلغ ذلك بعض أصحاب المذاهب في عصره، فقال: تلك ظرافة أهل الحجاز، أما لو سمعها بعض متنطعة أهل العراق لشتمها، وضخب بها.

وهناك الكثير الكثير مما يصلح أن يكون استراحة محارب، ونسأل الله (جلّ شأنّه) أن يلهم إخواننا وأبناءنا وتلامذتنا الفهم الحق للجمال، فالجمال قيمة من القيم المهمة، امتن الله علينا بها، حتى في جمال الحيوانات،﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾(النحل:6).

 وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *