أ.د/ طه جابر العلواني
المذاهب الفقهيَّة التي ظهرت بعد عصر الصحابة وكبار التابعين يعدها بعضهم ثلاثة عشر مذهبًا، ويُنسب جميع أصحابها إلى مذهب أهل السنَّة، ولكن لم ينل حظ التدوين سوى فقه ثمانية أو تسعة من هؤلاء الأئمة، وقد تباين ما دُوّن من فقههم فحظي بعضهم بتدوين كل فقهه، على حين اقتُصر على بعضه بالنسبة للآخرين؛ وهم:
الإمام أبو سعيد الحسن بن يسار البصري (ت110هـ)، الإمام أبو حنيفة التعمان بن ثابت بن زوطي (ت150هـ)، الإمام الأوزاعي أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد (ت157هـ)، الإمام سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري (ت160هـ)، الإمام الليث بن سعد (ت175هـ)، الإمام مالك بن أنس الأصبحي (ت179هـ)، الإمام سفيان بن عيينة (ت198هـ)، الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ)، الإمام أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241هـ). وهناك الإمام داود بن علي الأصبهاني البغدادي المشهور بالظاهري؛ نسبة إلى الأخذ بظاهر ألفاظ الكتاب والسنة (ت 270هـ).
أمَّا الذين تأصلت مذاهبهم وبقيت إلى يومنا هذا، ولا يزال لها الكثير من المقلدين في ديار الإسلام كلها، ولا يزال فقههم وأصوله مدار التفقه والفتوى عند الجمهور فهم الأئمة الأربعة: أبوحنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل.
مناهج الأئمة المشهورين
يعتبر الأئمة الثلاث مالك والشافعي وأحمد بن حنبل فقهاء حديث وأثر، فهم الذين تلقوا فقه أهل المدينة، وحملوا علومهم، أمَّا الإمام أبوحنيفة فهو وارث فقه أهل الرأي. وكان من الطبيعي أن تنتقل الاختلافات التي كانت بين مدرسة سعيد بن المسيب – القائمة على فقه الصحابة وآثارهم -، وبين مدرسة إبراهيم النخعي – التي تعتمد على الرأي إن غاب الأثر – إلى كل من أخذ بمنهج إحدى المدرستين، وإن كان الخلاف قد خفت حدته كثيرًا في هذا الطور بعد انتقال الخلافة إلى بني العباس، فحرصوا على انتقال كبار علماء الحجاز إلى العراق لنشر السنة هناك؛ منهم: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد، وهشام بن عروة، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم. كما أنَّ بعض العراقيين رحلوا إلى المدينة وتلقوا عن علمائها كأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، ومحمد بن الحسن الشيباني وكلاهما تتلمذ على أبي حنيفة، لكنهما أخذا عن مالك أيضا. كما انتقلت كثير من آراء العراقيين وأفكارهم إلى الحجاز كانتقال أفكار الحجازيين إلى العراق. ورغم ما سبق فإنَّنا نجد الأئمة الثلاث مالكًا والشافعي وأحمد يشكلون منهجًا متقاربًا فيما بينهم، وإن اختلفوا في بعض مناهح الاستنباط وطرائقه، في حين تميز الإمام أبو حنيفة عنهم. فقواعد مذهبه كما بينها هو بقوله: “إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والآثار الصحاح التي فشت عنه في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذت بقول أصحابه؛ آخذ بقول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم. فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن المسيب ( وعدَّد رجالًا)، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا “. فهو – إذن – يتشدد في الأخذ بالرواية؛ فنجده لا يأخذ برأي الواحد فيما تعم به البلوى، ويقدم القياس الجلي على خبر الواحد المعارض، وإذا خالف الراوي الفقيه روايته بأن عمل على خلافها: فالعمل بما رأى لا بما روى. ولذلك نقلوا عن الإمام أبي حنيفة قوله: “علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه”. أمَّا الإمام مالك فقد كان يقول: “أفكلما جاءنا رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لجدله”.
وتتلخص قواعد مذهب مالك بما يلي: “الأخذ بنص الكتاب العزيز، ثم بظاهره وهو العموم، ثم بدليله وهو مفهوم المخالفة، ثم بمفهومه (أي مفهوم الموافقة)، ثم بتنبيهه (وهو التنبيه على العلة)؛ وهذه أصول خمسة، ومن السنة مثلها فتكون عشرة. ثم الإجماع، ثم القياس، ثم عمل أهل المدينة، ثم الاستحسان، ثم الحكم بسد الذرائع، ثم المصالح المرسلة، ثم قول الصحابي إن صح إسناده وكان من الأعلام، ثم مراعاة الخلاف (إذا قوي دليل المخالف)، ثم الاستصحاب، ثم شرع من قبلنا”.
ويرى الإمام الشافعي: “أنَّ القرآن والسنة سواء في التشريع، فلا يشترط في الحديث شرطًا غير الصحة والاتصال لأنَّه أصل والأصل لا يُقال له لمَ وكيف؟ “. فلا يشترط شهرة الحديث إذا ورد فيما تعم به البلوى – كما اشترط الإمام أبو حنيفة – ولم يشترط عدم مخالفة الحديث لعمل أهل المدينة – كما اشترط مالك -. لكنه لم يقبل المراسيل إلا مراسيل سعيد بن المسيب، لأنَّ لها طرقًا متصلة عنده؛ وقد خالف في هذا مالكًا والثوري ومعاصريه من أهل الحديث الذين كانوا يحتجون بها. وأنكر الاحتجاج بالاستحسان مخالفًا في ذلك المالكيَّة والحنفيَّة معًا، كما رد المصالح المرسلة وأنكر حجيتها، وأنكر الاحتجاج بقياس لا يقوم على علة منضبطة ظاهرة، وأنكر الاحتجاج بعمل أهل المدينة، كما أنكر على الحنفية تركهم العمل بكثير من السنن لعدم توفر ما وضعوه من الشروط؛ كالشهرة ونحوها، كما أنَّه لم يقتصر – كمالك – على الأخذ بأحاديث الحجازيين”.
وأمَّا قواعد مذهب الإمام أحمد بن حنبل فتتمثل في: “الأخذ بنصوص القرآن والسنة، فإن لم يجد انتقل إلى فتوى الصحابة؛ فإن وجد قولًا لصحابي لا يعلم له مخالفًا من الصحابة لم يعده إلى غيره، ولم يقدم عليه عملًا ولا رأيًا ولا قياسًا. فإذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتضح له الأقرب إلى الكتاب والسنة حكى الخلاف ولم يجزم بقول منها. ويأخذ بالحديث المرسل والضعيف ضعفًا منجبرًا إذا لم يجد في الباب غيره، ولا أثرًا يدفعه، ولا قول صحابي، أو إجماعًا يخالفه، ويقدمه على القياس، فالقياس عنده دليل ضرورة يُلجأ إليه حين لا يجد واحدًا من الأدلة المتقدمة. ويأخذ بسد الذرائع”.
وأمَّا قواعد المذهب الظاهري فتتمثل في: “التمسك بظواهر آيات القرآن الكريم والسنة وتقديمها على مراعاة المعاني والحكم والمصالح التي يُظن أنها لأجلها شرعت. ولا يعمل بالقياس عندهم مالم تكن العلة منصوصة في (المقيس عليه) ومقطوعًا بوجودها في (المقيس) كما يحرم العمل بالاستحسان، ويستدل بالإجماع الواقع في عصر الصحابة فقط، ولا يعمل بالمرسل والمنقطع، ولا بشرع من قبلنا، ولا يأخذ بالرأي، ولا بالمفهوم المخالف، كما يحرم التقليد على العامي كما هو حرام على العالم”.
والحقيقة أنَّ كثيرًا من تلك الأصول التي نسبت إلى الأئمة المتبوعين هي أصول مخرجة على أقوالهم، فالتشبث بها والدفاع عنها، وتكلف إيراد الاعتراضات والإجابات عليها، والانشغال بكل ذلك عن كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أورثنا خلافات مقيتة تدنت بها الأمَّة إلى الدرك الهابط.