Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

معالم في المنهج القرآني تصدير

بقلم: أ.د/ وليد منير

هذه محاولة تأسيسيَّة وخطرة في آن واحد، أمَّا تأسيسيَّتها فترجع إلى أنَّها محاولةٌ جادَّة لبناء منهجٍ علميٍّ متكامل الأبعاد انطلاقًا من النصّ القرآنيّ، وهو النصُّ المركزيُّ الأكبر في «الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة»، مما يقتضي عقلنة مفهوم «الوحي» ومـفهوم «النبوَّة » بحسب ما نفهمه نحن من معنى « العقلانيَّة» في تراثنا العلميّ الإنسانيّ. وأمَّا خطرُها فينبُع من كونها مبادرة شجاعة نحو ربط الدلالة القرآنيَّة بالدلالة الكونيَّة الشاملة في تعبيرها، وفقًا لمنظور كثيرٍ من العلماء المجتهدين، عن قوانين الله I في خلقه، وعن غاية الله I من إيجاده الوجودَ على النحو الذي وُجدَ به تحديدًا، وبالتالي عن وجوب صدور الفعل الإنسانيّ عن فاعلهِ، وهو الإنسان، ممَثِّلاً لطبيعة القانون والغاية، وإلا صار انحرافًا عن مسئوليَّة الحفاظ على تناغم العالم في معزوفة الخلق.

يصل القرآن إلى أعماق الحقائق القصوىٰ الثابتة في كلٍّ من النفس الإنسانيَّة والمجتمع الإنسانيّ ليرسم الخطوط الفاعلة في علاقة البشر بالواقع، ويعيِّن خطوطها. وهو لذلك، يضعُ في حسبانه اعتبارات متعدّدةً منها ما هو هيكليٌّ، ومنها ما هو لُغويٌّ، ومنها ما هو تاريخيٌّ أنثروبولوجيٌّ، ومنها ما هو ثقافيٌّ، ومنها ما هو علميٌّ، وهذه الاعتبارات جميعًا تشكِّل مصداقيَّتهُ، وتبرهن على هيمنتِه، وتجعل منه أصلاً لحضارة إنسانيَّة جامعة بكل تنويعاتها واختلافاتها وائتلافاتها، وليس أدلّ على ذلك من أنَّ القرآن من «القَرْءِ» وهو الجمع أو من «القراءة» وهي مقاربة المعنى بما في هذا المعنى من مستويات الإيحاء والإشارة والتمثيل والمفارقة المتعدِّدة.

بيد أنَّ هناك حدًّا بين خصوصيَّة المُعْتَقَد الروحيّ وعموميَّة السلوك الأخلاقيّ يظل يحتفظ بموضعهِ؛ فالقرآن يؤسِّس قيمة «التوحيد»، ويؤكدها، ويقع على أسبابها، ولكنَّه، في الوقت نفسهِ، يُبْرِزُ سنَّة الاختلاف، ويُشَدِّدُ على مصفوفة القيم الأخلاقيَّة التي تكفل للبشر جميعًا أمنهم، وسعادتهم، وسلامهم. والإسلام في القرآن الكريم وارثٌ لكل الديانات السماويَّة التي نزلت لتنقذ البشريَّة من بؤسِها، ويأسِها، وتطاحنِها، وغفلتِها، وأنانيّتِها.قال تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ[ (البقرة:208)، وقال تعالى: ]الم * اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[ (آل عمران:1-2) وقال تعالى: ]وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[ (هود:118-119) وقال تعالى: ]شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ[ (الشورى:13).

والقرآن ظاهرة فذّة تربط بين المطلق والنسبيّ. ومن ثَمَّ فهي تصلح أنْ تكون موضوعًا لمنهج يبحث في تحليل معطيات الوجود ببعديها الفيزيائيّ والميتافيزيائيّ، ويستند إلى الملاحظة والفرض والاختبار من خلال ما كان يسميه المتقدمون «القياس الأصوليّ». والقرآن، بذلك، موضوعٌ لتكشُّفِ الحقيقةِ في وجهها الابتدائيّ الـمُكَثَّفِ حيث تبدو «مُجْمَلاً» ينتشر، شيئًا فشيئًا، في موجات بَثِّ التفصيلات المتعاقبة.

إنَّ مسئوليَّة الاجتهاد، هنا، تلعب دورًا خطيرًا ذا أهميَّة طارفة في إعادة الفهم والقراءة. ومن خلال نقدٍ واعٍ للمنهج العلميّ التجريـبيّ يَخْلُصُ الدكتور طه جابر العلواني إلى أنَّ الطبيعة تكشف عن نفسها بواسطة مجموعة من المناهج لا بواسطة منهج واحد.

ولا يتبادر إلى الذهن أنَّ مفكرنا ينحاز بصورة بسيطة إلى ما يُسَمَّى «بالتكامليَّة» _وهي عند البعض نوع من التوفيق والتلفيق_ بل هو أقرب بالأحرى، مما أطلق عليه «جاستون باشلار» «الفلسفة المتحاورة» حيث تقوم هذه الفلسفة على حوار المعطيات الموضوعيَّة بعضها مع البعض الآخر لإنتاج تفاعل يؤول في نهايته إلى استخلاص الحقيقة التي يصفها «باشلار» نفسه بكونها ثنائيَّة في قراراتها، وتقع -بتعبير هيرقليطس- تحت الاختباء.

يدور الدكتور طه العلواني بين المشترك والذاتيّ جيئةً وذهابًا لأنَّ الموضوعيَّ والخاصّ معًا يشتركان في سبر غور الحقائق. والتسلسل والحدس يصنعان معًا، من خلال وحدة بعض الموضوعات، بصيرة عقليَّة لا يسهل عزل طبقاتها بعضها عن البعض، وقد نبَّه القرآن إلى كون المعرفة ثمرة من ثمرات الوجدان والتأمُّل الداخليّ بقدر ما هي ثمرة من ثمرات النظر العقليّ فقال تعالى: ]أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[ (محمد:24). فالقلب، هنا، أداة النظر والبرهان والشعور والتأمُّل والحدس.

ولا بد أولاً، فيما يرى الدكتور طه، من القيام بواجب تنقية تراثنا في علوم القرآن وغربلته، ونقده. ولابد ثانيًا من حمل العلم كفرعٍ على القرآن وليس حمل القرآن كفرع على العلم لأنَّ بيان الإعجاز العلميّ لا يمثل المقصود من مشروعه الكبير. ولابد ثالثًا من إجابة القرآن عن الأسئلة الإشكاليَّة في عصرنا بمستوى السقف المعرفيّ لعصرنا ذاته، وليس لأيّ عصر آخر. ويملك القرآن إمكانيَّة مدهشة هي إمكانيَّة «السقف المعرفيّ المتحرك». وفي هذه الإمكانيَّة تكمن سعته الاستيعابيَّة لتحولات الزمان والمكان، وتطور التجربة البشريَّة، ثم لابد رابعًا من تفكيك وتشريح العقل المعاصر ومعرفة كيفيَّات صياغته ومناهجه وتشكيل رؤاه _ومن هنا لزم البحث في أطروحات الحداثة وما بعد الحداثة_ لنتمكن من تحديد موقفنا، وتعيين سياقاتنا، وإدراك وجوه الاختلاف والتشابه بين نموذج تفكيرنا ونموذج تفكير الآخر.

وباستخلاص المحددات الموضوعيَّة الأساسيَّة من القرآن نستطيع صياغة أسئلتنا وتوجيهها إلى القرآن كي يجيب عنها: هل هناك سببيَّة أم لا؟ وإذا وُجِدَت فهل هي مطلقة أم نسبيَّة؟ وهل الإنسان حر كامل الإرادة أم لا؟ وما مجال جبره واختياره في جدليَّة الحياة والواقع؟ وما قصد الوجود وغايته؟ وما معنى المصير؟…إلخ.

يحمل خطاب الدكتور العلواني أيضًا مخطَّطًا واسعًا حول مقاصد التشريع الكبرى: «التوحيد، التزكية، العمران»، وذلك بوصفها مؤشِّرات منهجيَّة لبناء مجتمع ذي مناشط متوازنة تكفل له السواء النفسيَّ من جهة، وتنقذه من براثن التبعيَّة لترسيمات المشروع الغربيّ الذي انتهى به الأمر إلى خداع المستضعفين باسم العولمة التي لا تعني عالمًا واحدًا إلا بقدر ما تعني تسلُّط الغرب على هذا العالم الواحد وقهره، وهو المسكوت عنه في خطاب الغرب.

يرسم مشروع «المنهج» كذلك حدود العلاقة المنهجيَّة بين الكتاب والسنة، وهو أمر شديد الأهميَّة، ويخلص إلى أنَّ السنّة الصحيحة في أغلبها، تجد مهادها المفهوميّ والدلاليّ في القرآن الكريم. فالقرآن والسنَّة يتعاضدان جذريًّا، من حيث التأكيد والتشديد على قيم وسلوكيَّات ومعايير بعينها.

ولأنَّ مشروع «المنهج» لا بد أنْ يتجاوز أساسًا، بخصوصيَّة وشموليَّة، ما عداه من المناهج الجزئيَّة أو ذات المنظور الأحاديّ، فإنَّ اهتمامًا مضاعفًا بنقد سياقات المنهج الغربيِّ المعاصر كان لا بد أنْ يجد سعته من البسط والتفسير والتحليل، وأهم هذه النقدات ما أثاره الدكتور طه العلواني عن «العقل الفطريّ » و«العقل الوضعيّ » أو عن ملابسات التطوُّر والتحكّم في العلوم الطبيعيَّة والرياضيَّة، أو عن طبيعة التفكير والعقل والانحياز الماديّ، كما أنَّه وجَّه نقدًا مهمًّا لما في تراث أسلافنا من «آفات القراءة» منتصرًا لنظريَّة الوحدة العضويَّة شبه الصارمة في القرآن الكريم.

ويرى الدكتور العلواني أنَّ المنهجيَّة المعرفيَّة القرآنيَّة تتجاوز العقليَّة السكونيَّة التي انبثق عنها فكر التعاقب والتكرار والتراكم والسببيَّة بدلاً من الصيرورة والتغيُّر النوعيّ والضابط المنهجيّ، وهذه نظرة ذكيَّة جداً توضِّح كيف انحرف الفكر الماضويّ السكونيّ بكثير من المفاهيم الإسلاميَّة، وقطعها عن غاياتها وبيئاتها، وفهمها بطريقة قاصرة.

ولقد أصاب الدكتور العلواني كَبد الحقيقة حين قال: إنَّ «الجمع بين القراءتين» _الكتاب المسطور والكون المنظور_ أهم خطوةٍ منهجيَّة وأبرز محدِّد منهاجيّ يساعد على كشف وتحديد بقيَّة المحدِّدات المنهاجيَّة القرآنيَّة.

لن أبالغ إذا قلت إنَّ «معالم في المنهج القرآنيّ» مبادرة طموحٌ نحو نظريَّة شاملة توازن بين الثوابت والمتغيِّرات عبر الزمان والمكان، وتضع أسُسًا وقواعد لمسار تفكير العقل المسلم، وإطارًا مرجعيًّا لحركته، بما يكفُل له تجديد نفسه دومًا، وشحذها بطاقات تفسيريَّة خلَّاقة. ومهما كانت نقاط الاختلاف والاتفاق في بعض المواضع بين قارئ الأطروحة وصاحبها، فسوف تظل المساحة المشتركة بينهما أكبر ما دام المنطلق هو ذاته، والغاية هي ذاتها، والمنطلق والغاية هما مناط فعل التأثير في أيّ مشروع رائد كهذا المشروع.

إنَّ صاحب المشروع – هنا – ليس مجّرد بنَّاءٍ في صرح الفكر الدينيّ كما كانت الحال مثلاً مع «بول تيليتش» أو «جان جيتون» أو «بول ريكور» في الفكر المسيحيّ، ولكنَّه مجدِّد ومصلح وناقد، همُّه الأكبر – بعد تنقية الأصول وربطها بالقوانين المنطقيَّة الأم لهذا الكون، إعادة تشكيل العقل المسلم وفقًا لمنهج علميّ واجتماعيّ وثقافيّ _أي منهج حضاريّ في جملته_ مُسْتَقَى من القرآن الكريم الذي ينبغي التفاعل معه- بحسب د.طه العلواني- على أساس منهجيّ، كذلك للكشف عن ضفائر العلاقة بينه وبين الكون بمعناه الواسع.

إنَّ إعادة تشكيل العقل المسلم مهمَّة صعبة؛ لكونها مهمَّة تقع في نقطة التقاء ثنائيَّات عدة ينبغي التوفيق الإجرائيّ بينها على أساس طبيعيّ لا تَعمُّل فيه ولا اصطناع: الفيزياء/ الميتافيزياء، المعرفة القرآنيَّة في إحكامها/ تفاصيل الناموس الكونيّ، المسلَّمات الافتراضيَّة في القرآن/ العلم الموضوعيّ، الثوابت القيميَّة والأخلاقيَّة في القرآن/ المتغيِّرات التاريخيَّة الاجتماعيَّة البشريَّة في عالم الفعل الزمنيّ، معرفة الذات/ معرفة الآخر، شفرة العُلُوّ _بتعبير كاسبرر_/الشفرة الصلبة للمادة في تجسُّد رغباتها ونوازعها على مستوى الوجود الأرضيّ… إلخ.

بيد أنَّ الموجة الأخيرة للعلوم الطبيعيَّة والاجتماعيَّة المعاصرة تقف إلى جانب المشروع النبيل، الذي يورده العلواني لأنَّ مقولاتها تمثِّلُ مفاجأة للجميع، فمِنْ مبحث «يونج» حول «الليبيدو» الذي يمثِّل لديه جملة الطاقة النفسيَّة الدافعة، بفعل محتواها، إلى التأثير – وليس الطاقة الغريزيَّة فحسب كما عند «فرويد» – إلى مبحث «هايزنبرج» الذي كان أول مَنْ أدرك أنَّ التكامل بين الجزئ والموجة في فيزياء الكمّ، يُنْهى إلى الأبد ثنائيَّة المادة والروح الديكارتيَّة إلى مبحث «بنفيلد» في فسيولوجيا الأعصاب حيث توصَّل أخيرًا إلى أنَّ العقل والروح جوهران متمايزان تمامًا، وأعطى احتمالاً متزايدًا لبقاء الروح بعد تحلُّل الدماغ بموت الإنسان، يستطيع المرء أنْ يتحرك مع حركة الأفق الرحب الذي يواكب أفق الحقيقة.

 والحقيقة هي وصف الحق كما يقول «النقّري» -رحمه الله-. وقد نعتها الله I من حيث هي ما يستحيل الشك فيه، ووحَّد بينها وبين كلامه I باعتبار الهداية فقال: ]الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ[(البقرة:1-2)، فتشكيل العقل المسلم يبدأ من مسلَّمة أنَّ كلامه Y المسطور هو نداء الحقيقة، وإعادة تشكيل هذا العقل يبدأ من لَأْمِ الصدع بين نداء الحقيقة الإلهيّ في الخطاب المنـزَّل الذي تحول إلى نصٍّ بارز الحروف بتسطيره وبين العالم الكونيّ الذي ابتعد عن منهج ذلك النداء العظيم.

يتكلم الكثيرون عن نسبويَّة التاريخ، وحسم تحوُّلاته، بتقديسٍ مَرَضِيٍّ يفضح مخاتلتهم للذات وللمعايير شبه الصلبة التي تمتلكها العلوم الطبيعيَّة، ولو بدرجات مختلفة، سلطةُ وجوب ما؛ ولذلك يؤكد القرآن الكريم على الكونيَّات بنبرة متميِّزة: ]أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ[ (الأعراف:185) .

 أمَّا في حقل العلوم الإنسانيَّة فيندر الحديث عن حسم علميّ لا رجعة فيه؛ لأنَّ القوى الاجتماعيَّة والسياسيَّة المؤثِّرة في الحاضر تأخذ بزمام الوعي من جهة، ولأنَّ خصوبة المعرفة في العلوم الإنسانيَّة تَمِتُّ بصلة أكبر إلى حدسيَّة الفنان منها إلى الروح المنهجيَّة للبحث كما يقول «هانس جيورج جادامير» من جهة ثانية.

وإذا كان هذا لا يَحول دون منهجة العلم الإنسانيّ وتحريره من مجموع القوى المسلَّطة عليه، فأنْ ننصت إلى التراث -بتعبير جادامير- وأنْ ننتمي إلى فضائه ذلكم -فيما يبدو- هو سبيل الحقيقة التي ينبغي البحث عنها في العلوم الإنسانيَّة، وكل نقدٍ للتراث يمكننا القيام به كمؤرخين لا يمكنه سوى أنْ يربطنا بالتراث الحقيقيّ الذي ننتمي إليه بالفعل. وأنْ نكون مشترطين بهذا التراث لا يشكل عائقًا بالنسبة للمعرفة التاريخيَّة وإنَّما يعتبر لحظة الحقيقة نفسها.

أعتقد أنَّ الدكتور العلواني كان مدركًا، بفطرة إيمانه، وصفاء توهُّجه العقليّ الوجدانيّ لهذا المدى البعيد من تدخُّلات المعرفة وتخارجاتها، وعلى هذا الإدراك أسَّس نقده، ثم شرع في تأسيس معالم منهجه، وكان حريصًا في كل الأحوال على توخِّي الدقة واتقاء الزلل حفظًا لمنهجيَّة كتابه I من سهام المغرضين وتصيُّدات المعرضين والمعترضين. ويُمثِّل عمله جوهر ظاهرة العاطفة الإيمانيَّة من حيث كونها ظاهرة نفسيَّة تقوم على الإدراك الوجدانيّ والعقليّ في آنٍ.

 إنَّ رَصْدَ «معالم في المنهج القرآنيّ»، ومنحها عمقها الفلسفيّ الإبستمولوجيّ، وتحليل ما ينتج عنها من فاعليَّات نشطة في التفكير والسلوك، فكرة من ألمع أفكار التجديد الحضاريّ، والدافعيَّة العقليَّة والروحيَّة.

 إنَّها أقرب إلى ما يسميه «فويه» الفكرة – القوة Idea – Force وهي ما يدل على أنَّ للظاهرة النفسيَّة صنفين في الأساس: أحدهما ذهنيَّ، والآخر إراديَّ، ومردُّ ذلك أنَّ الفكرة، بما يرجع لها من عقل وإرادة، تبعث على الحركة، فالأفكار تحرِّك العالم على ذلك النحو. أمَّا ابن عطاء الله السكندري ، فقد أعطى الفكرة ما هو أبعد من هذا الإحساس على مستوى التدبُّر والبصيرة والحدس فقال: إنَّ الفكرة سراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *