(2)
شرعنة الشذوذ
أ.د/ طه جابر العلواني
هناك مثل حفظته منذ الصغر، وردت بعض كلماته في آثار وأخبار كثيرة هي: أن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جلس بين بعض أصحابه يومًا، فقال: “كيف بكم إذا أضعتم صلاتكم وتركتم جهادكم؟ فاستغربوا ذلك، وقالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟! -فالنقاء والصفاء الذي كان أولئك السلف يعيشون فيه، لم يسمح لهم بأن يتخيلوا انحرافًا يبلغ بهم ذلك المدى بإضاعة الصلاة والجهاد، سواء بإساءة فهمه، أو إساءة تطبيقه، أو تشويه صوره، أو إلقائه وتعطيله-، ثم قال: نعم وأشدّ من ذلك سيكون، فكيف بكم إذا توقفتم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستغربوا أكثر، وقالوا: أو كائن هذا يا رسول الله، قال: نعم وأشدّ من ذلك سيكون، فكيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، يقول الله: لأتيحنَّ لهم فتنةً تذر الحليم فيهم حيرانًا”.
قد لا يصح هذا الحديث موقوفًا أو معروفًا، لكن معانيه صحيحة، وصادقة، ومتحققة في هذا الوقت، ففي أمريكا اليوم بعد أن تم تشريع العلاقات الشاذة، وإلغاء مفهوم “النكاح” المشروع في جميع الأديان، وازدراء ذلك المفهوم؛ بحيث سار زواج الذكر بالأنثى يسمى بالعلاقات التقليديّة، فبأمريكا الآن ما يزيد عن اثنين واربعين دينًا، حاولوا فيما مضى تأسيس منظمة للأديان المتحدة إتباعًا وتأسيًا بمنظمة الأمم المتحدة، وفشلوا في ذلك، لكن هناك مكتب ما يزال موجودًا في الأمم المتحدة، يقوم عليه واحد من المتدينين بالديانات الوضعية الهندية “داوة” وكانت مهمة الأديان المتحدة ألا يسمح لأي دين بأنّ يدّعي لنفسه أحكامًا أو شرائع تخرج عن شرعيّة هذه المنظمة، فهذه المنظمة كان يفترض بها أن تصادر الحكميّة الإلهيّة وحكميّة الكتب السماوية: التوراة، والإنجيل، والقرآن؛ لتسلمها لهذه المنظمة، فهي التي تقرر ما هو دينيّ وما لا يصلح أن يكون جزءًا من الدين، وقد فشلت المحاولة وأخفقت، ولكن الشيطان لا يرضى بالهزيمة، ولابد أن يعاود الكرة بعد الفرة؛ ليحقق ولو بعض أهدافه، ويبدو أن الشيطان قد نجح مؤخرًا في الولايات المتحدة، وأقرّت المسيحيّة والنصرانيّة بهزيمتهما أمام حزب من أحزاب الشيطان، ولم يبق صامدًا من الأديان في وجه تلك المحاولات إلا الإسلام، الذي يحمل أهله القرآن الميسر للذكر، والذي يحفظه الذاكرون المتدبرون.
انهزمت اليهوديّة، واعتبرت العلاقات المحرمة الشاذة التي لم تقرها التوراة، ولا التلمود، ولا أي مصدر معتبر من مصادر اليهوديّة، لكن من يسمون أنفسهم بالإصلاحيين من اليهود سارعوا إلى ذلك وأقروه، وشايعوا أهله، وسمح لأصحاب تلك العلاقات المحرمة الشاذة أن يؤسسوا لأنفسهم بيعًا وأماكن عبادة تخصهم يقودها شواذ مثلهم. الإصلاحيون اليوم يرون أن ذلك دليل على مرونة اليهوديّة، وقدرتها على مسايرة التغييرات عبر العصور، وتبعتها النصرانيّة، فانهزمت بأشدّ من هزيمة اليهوديّة، وبقى الإسلام صامدًا، يدافع وحده عن قيم الدين الحق كله، وعن الأديان الإبراهيميّة كلها، وعن الأديان بصفة عامة، ويبين شذوذ الشاذين، وانحرافات المنحرفين، فحقد عليه الحاقدون، وخوفوا الناس منه، ونشروا بين الشعوب الغربيّة وفي مقدمتهم أمريكا ما يسمى وعُرف بـ “الإسلاموفوبيا”، ويبدو أن هناك قرارًا بالقضاء على المسلمين بأيديهم، وكلها من ذلك الوزن الثقيل الذي يجعل “الحليم حيران”. فهؤلاء المسلمون أوتيت إليهم كل جهود الإعلام المعاصر في الشرق والغرب في بعض بلاد المسلمين وخارجها؛ للقضاء على الشريعة الإسلاميّة، وهزيمة الطهارة الإنسانيّة، وترك الرذائل؛ لممارسة مزيد من التخريب، والتضليل، والإغواء، والحيرة.
وها هو المجتمع المسلم اليوم في الولايات المتحدة الذي يزيد عن عشرة ملايين، يواجهون هذه التشريعات، ولقد أنضم هؤلاء الشواذ إلى الحزب الديموقراطي؛ ليفسروا الديموقراطية بحسب أهوائهم؛ وليجعلوا عملهم الشاذ المنحرف يسلك في عداد الجهود الباحثة عن الديموقراطية، والمناصرة للحرية، والمساواة، وما إلى ذلك، وقد يُظهر هؤلاء تأييدهم لكثير من القضايا الإسلاميّة؛ ليكسبوا سكوت المسلمين، وذلك بدعوة الحكومات الغربية للتوقف عن ممارسة محاولتها المدمرة للإسلام والمسلمين في تلك البلدان، خاصة في ما يحدث في العراق، وسوريا، وفلسطين، وليبيا، وغيرها. وتعالت بعض الأصوات المخذولة لتقول: مادام هؤلاء يؤيدون قضايانا، فلماذا لم نؤيدهم في قضية الشذوذ، أو نسكت في الحد الأدنى، ونتخذ منهم حلفاء سياسيين؟
تصوروا أية حيرة يمكن أن تدرك الحليم، وهو يرى أن بعض الضعفاء المنهزمين ينادون بضرورة اللحاق باليهود والنصارى، وبمشروعيّة تلك العلاقات الشاذة المدمرة، واعتبار ذلك مرض، كما يقول الأطباء ولا على المريض حرج.
وهذه طامة كبرى، وجريمة نكراء لا تذر “الحليم حيران” فقط، بل تجعله في حالة انهيار تام يصعب عليه أن يميز بين الليل والنهار، إننا نُذَّكر هؤلاء بقصة بني اسرائيل الذين تحايلوا في قضية احترام السبت ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾(الأعراف166:163).
ونجد بأن أولئك الذين يفكرون أن يسكتوا وألا يستنكروه، تنطبق عليهم الآيات الكريمة ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف176:175) ، فهم لا ينبغي أن يكونوا أئمة مساجد ولا مراكز، ولا نغالي إذا قلنا أن هؤلاء إثمهم مضاعف، وعذاب الله (تبارك وتعالى) لن يتأخر كثيرًا ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ (البقرة:165).
فنحن نؤكد أن هذه فتنة تذر الحليم حيران، ولكن القرآن شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة، وهو الذي يبين لنا، ويهدينا سواء السبيل. وإني هنا أُنبه هؤلاء، وأُحذرهم من أن يتحولوا إلى دعاة لأبواب جهنم، يُدخلون الناس النار، ويزج الله بهم ليكونوا في أسفلها.
أن البعض يدّعي ويسول له الشيطان أنّ هذا الذي يحدث من تدمير للقيم، وتحطيم لنظام الأسرة، وتفكيك للمجتمع، ذلك كله ضريبة لابد من دفعها للحصول على الديموقراطية، وتدعيم الحرية، والمساواة. وتعس عبد الديموقراطية الذي يجعل منها ناسخة للقيم الإلهيّة، وبديلا عن الشريعة الربانيّة.
فالله (تبارك وتعالى) قد حرر الإنسان، ومَنَّ عليه بقيمة الحرية، ولا يرضى لعباده أن يستعبدهم أحد، أو يصادر حريتهم أحد، ولكن الحرية ليست قيمة مطلقة بل قيمة نسبية، فنحن نضحي بحريتنا إذا تصادمت مع حريات الآخرين، ولا نمارسها إذا أدت إلى الكوارث، وقد ضبط لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا المفهوم بحديثه الشهير حديث السفينة “حدثنا أبو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، قَالَ: سَمِعْتُ عامرًا يقول سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا”[i]، والمساواة في حياتنا كلها لا تقبل أن نساوي بين الحق والجور، وبين العدل والظلم ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ﴾ (فاطر: 19-21).
فلا يخدعنكم أحد بمثل هذه الكلمات ويستدرجكم إلى التنازل عن دينكم، فتظهر كل هذه الفتن والاضطرابات؛ لظهوره على الدين كله؛ لأنّه وحده يمثل الدين الحق الذي حمله الأنبياء كافة والمرسلون، وستدرك البشريّة من انحرافات المنحرفين، وأكاذيب المغضوب عليهم، وتحريفات الضالين أنهم يفعلون ذلك كله؛ ليرفعوكم إلى أحضان “داعش” وغيرها، وليحتج بعد ذلك عليكم بأنكم دعاة التطرف، فيضربونكم ويدمرون أمتّكم ويفرقونكم شيعًا، وأحزابًا، ويلبسونكم فرقًا، وطوائف، ويلبس عليكم دينكم، فخذوا حذركم، فأنتم لستم على ثغرة واحدة بل أنتم القائمون على حمايتها والمحافظون عليها، وسيقيض الله لكم من أبناء الأديان الأخرى من يناصركم ويشدّ على أيديكم، ويشارككم الكفاح من أجل المحافظة على القيم، فلا يستخفنّكم الذين لا يوقنون.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
[i] صحيح البخاري، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، ج3/139، حديث رقم (2493).