أ.د/ طه جابر العلواني
كانت الإصدارة الأولى لأدب الاختلاف محاولة لمعالجة جادة لمرض من أمراض الأمَّة فى تلك المرحلة؛ فلقد كثرت أمراض الأمَّة، وأخطر ما أصيبت به هو داء الاختلاف. وعلم الخلافيَّات: علم قائم بذاته، كتب فيه الكثيرون من متقدمين، ومتأخرين، وهناك خلافيَّات «مالك»، و«أبو حنيفة»، و«أبو يوسف»، و«الأوزاعي»، و«البيهقي»، ويعد كتاب «بداية المجتهد» من بين كتب الخلافيَّات، و«الإفصاح عن معاني الصحاح» لإبن هبيرة، و «الإشراف على مذاهب الأشراف الأئمه الأربعه فى اختلاف المذاهب» لابن هبيرة، و«الإشراف على نكت مسائل الخلاف» لعبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي أبو محمد، وغير ذلك كثير.
إنَّ الفقه الخلافي، أو ما يسمى فى عصرنا الحالي بالفقه المقارن أثر فى ثقافتنا، ولامس الوعي فينا؛ ليعطي انطباعًا بأنَّ الخلاف، والاختلاف، والمخالفة؛ متصلة بالفقه، وكأنَّ غير الفقه لا يقع فيه اختلاف، أو أنَّ الأصل ألا يقع اختلاف فيه؛ وذلك لأنَّ الفقه امتد فى حياتنا امتدادًا سرطانيًّا حتى سيطر على سائر جوانب الحياة. فصار الناس يتساءلون عن كل شيء يصادفهم، غذاء أو غيره ما إذا كان حلالًا، أم حرامًا، ومن أفتى به؛ مما جعل الأفهام تتجه نحو «الخلاف الفقهي». فإذا تكلمنا فى وحدة الأمَّة، بادر البعض للتساؤل عن كيفيَّة جمع العلماء، والوصول إلى حل للأمور المختلف فيها. أمَّا السياسة، والاقتصاد فقليل من الناس يلتفتون إليها؛ ولذلك كان محور كتاب «أدب الاختلاف» فى إصداره الأول هو: المحور الفقهي فى تناول الاختلاف فى المذاهب السنيَّة الأربعة، واعتبار أنَّ كل ما سبق بمثابة مقدمة، أو تمهيد. فما جاء فى الفصل الأول: «فى بيان حقيقة الاختلاف وما يتصل بها»، وبيان المقبول، والمردود منه، وتقسيمات الاختلاف من حيث الدوافع، وآراء العلماء فيه. كل ذلك كان جزءًا من التمهيد، أو المقدمات لتناول الاختلافات الفقهيَّه بين المذاهب السنيَّة. فقد أشرت في الفصل الثانى «تاريخ الاختلاف وتطوره» إلى اختلاف الصحابة فى عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحدثت عن التأويل، وضوابطه، واختلاف الصحابة، وموقف أهل الفتيا، والاجتهاد، والقرُّاء، وأشرت إلى الخلاف السياسي، ومساره فى اختلافات الأمَّة الفقهيَّه، والكلاميَّة، وأوردت نماذج من مناظرات جرت فى تلك الأطر. وعقدت الفصل الثالث للحديث عن: «مناهج الأمَّة فى الاستنباط»، وخصصت الفصل الرابع لتناول: «أسباب الاختلاف» إذا كان قد وجد فى عهد النبوة، وعهد الخلفاء الراشدين المهديين، ثم عرجت على ذكر أسباب الاختلاف فى عصور الفقهاء، وهنا بسطت الحديث فى الاختلافات الفقهيَّه، وبسطت ضرورة التمسُّك بآداب الاختلاف إذا ثبت عجزنا عن استئصاله من جذوره. وخصصت الفصل الخامس بالتحدث عن: «معالم الاختلاف بين الأئمة، وآدابه»، وأوردت رسالة الليث بن سعد للإمام مالك نموذجًا، وسردت مجموعة لا بأس بها من المواقف التى تنبه إلى: ممارسة علمائنا، ومجتهدينا لأدب الاختلاف فى مناظراتهم، وترجيحاتهم، مما يمكن معه الخروج بمنهج، أو ضوابط من الآداب؛ تسمح بالتخلُّص من: الآثار السلبيَّة للاختلافات، أو تجاوز آدابها. وجعلت الفصل السادس خاصًا «بالخلاف بعد القرون الخيرة، وآدابه». والاختلاف فى عصر توقف الناس عن الاجتهاد، ووصولهم لعصور التقليد المتتابعة منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، وبينت أسباب الاختلاف اليوم منذ ما يزيد على ثلاثين عامًا، ولم أكن أعلم أنَّ الاختلاف بين المسلمين سيزداد إلى هذه الدرجة –درجة التقاتل والحروب الداخليَّة – وأوضحت سبيل النجاة. وها نحن لا نزداد إلا فرقة، وأحزابًا، كل منها كأنَّه يعيش فى جزيرة منفصلة عن الآخرين. ومع ذلك فإنَّ الكتاب بجملته أسَّس بسبق واضح “لعلم آداب الاختلاف”؛ وهو مساهمة جادة للوعي بقضيَّة من أخطر وأهم قضايا الأمَّة، ولو أنَّ الصحوة قد استفادت بذلك الكتاب، ودرسته بعناية؛ لتلافت إنماء أسباب الاختلاف بين الحركات، والجماعات التى وصلت إلى حد استباحة البعض لدماء مخالفيهم، وتسويغ ذلك بمسوغات شتى.
أمَّا إصدارنا الثاني لهذا الكتاب وهو: “من أدب الاختلاف إلى نبذ الخلاف” فسيكون بناءً على ما تأسَّس، وإضافة إلى ما قد بني، وتتمة، وتكملة؛ ولذلك فإنَّني أنصح الباحثين، والجامعات التي قررت الاستفادة من أدب الاختلاف في إصداراته الأولى: “أن تعتبر الإصدارة الثانية، مع سائر الإضافات؛ إضافة ما كان يمكن أن تحدث لولا التأسيس لهذه الإضافة فى الإصدارة الأولى؛ ولذلك فإنَّنا ننصح أن يدرس الكتابان معًا، وتربط قضاياهما برباط شامل يحقق الاستفادة، ويبيِّن كيف تتطور الأفكار، وتستفيد بالتراكمات التى تضاف إليها. ولذا سنفرد فصلاً نوجز فيه الكتاب الأول بما يعين على تحقيق هذا الهدف، ومنه نعبر إلى الثاني الذي يحمل ذات الرسالة التي حملها الأول، وهي الدعوة إلى «وحدة الأمَّة»، ونبذ الفرقة، لكنَّه يسعى للتأسيس لها فكريًّا، ومنهجيًّا، وليس فقهيًّا فقط.
ترقبوا إصدارتنا الثانية “أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف” في القريب –إن شاء الله.