Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

بين التدبر والتفسير

أ.د/ طه جابر العلواني

التفسير عرفه القوم بأنَّه: شرح وبيان معاني كلمات القرآن الكريم، اعتمادًا على المعاني اللغويَّة، ومعاني كلمات العرب في اللغة اعتنى بحفظها وروايتها وتداولها عدد قليل من أهل العلم، ولم ترو لنا معان لغويَّة بالتواتر، بحيث نعلم أنَّ الذين وضعوا الكلمات مقابل المعاني عدد كبير يتحقق بقوله وبما جرى نقلهم عنه اليقين، ومنهجهم في معرفة استعمال العرب لكلماتها في معانيها منهج بسيط لم يخضع لاختبار أو فحص، وكذلك منهج روايتها لم يخضع لشيء كالذي خضعت له قواعد رواية السنن والأخبار، وقد كان قصارى ما يحدث أن يقوم أشخاص مثل الأصمعي ورؤبة والخليل وابن سلام وغيرهم بزيارة قبائل العرب زيارات محدودة، يستمعون فيها إلى لسانهم، فينقلون ما يستمعون إلى الناس على أنَّه المعنى المراد بالكلمة الفلانيَّة.

وقد نعى الفخر الرازي على اللغويين بسائر أصنافهم ذلك الأسلوب، نستطيع أن نطلع على بعض لومه لهؤلاء في تفسيره لسورة الحجر، وفي مواضع متفرقة، وقد حمله ذلك على تقديم الدليل العقلي على النقلي وهو أمر لا نوافقه عليه؛ لأنَّه قال: بأنَّ الدليل اللفظي يصل إلى درجة القطع واليقين إذا اجتاز عشرة اختبارات، بيَّنها في العديد من كتبه، ومنها كتابه المحصول، وكل ذلك الاعتراض منه على من ادعى اليقين دون التفات إلى معاني الألفاظ في اللغة، وكيف جرى تناقلها بطرق كلها ظني. وجمهرة المفسرين نفوا أن يكون التفسير علمًا لأسباب كثيرة، ليس هذا موضع شرحها، لكن منها قضيَّة اللغة وروايتها؛ ولذلك يفضل البعض أن يسميه فنًا بدل أن يطلق عليه علمًا.

 وقد فوجئنا بأنَّ هناك عددًا من المعنيين بالتفسير اليوم يشككون بفرضيَّة التدبر، تدبر القرآن الكريم، ويعدونه أمرًا متخصصًا، لا ينبغي أن يمارسه إلا المتخصصون في التفسير؛ لكي يخضع لقواعده وضوابطه، ويدخل في إطار المنهي عنه الذي ورد فيما يروونه من الأخبار، مثل: “من قال بالقرآن برأيه أو مما لا يعلم فليتبوء مقعده من النار”؛ ليحصروا التفسير بما هو مروي عن السلف، وبالتالي تنتهي مهمة المتدبر، وتُقتل الدعوة إليه، وقد عالجنا ذلك في الحلقة الأولى من مقالاتنا التي خصصناها للتوكيد على الفروق الكبيرة بين التفسير والتدبر.

إنَّ التدبر يقوم على الآيات الأربع التي حضت عليه، وأمرت به، بحيث جعلت منه فرض عين انطلاقًا منها ومن نص القرآن المجيد، على أنَّ الله (تبارك وتعالى) قد يسر القرآن، وسهل لغته، وجعله بيانًا وتبيانًا وآيات بينات بل ومبينات لغيرها:﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ(القمر:17). والمتدبر ليس مطالبًا أن ينشر أو يعلن تدبره على الملأ، أو يدعو الناس لمتابعته، وبالتالي فالمتدبر لا يتدبر لكي يفسر القرآن للناس، ولكنَّه يتدبر ليفهم ويفقه ويرتبط بالقرآن المجيد وبمعانيه بأوثق رباط، في حين أنَّ المفسر إنَّما يقصد في تفسيره الآخرين من الناس، فالتدبر فرض عين، والتفسير أقرب إلى فروض الكفايات.

والتدبر يقوم على الحوار بين المتدبر والقرآن المجيد، انطلاقًا من القرآن ذاته، وغوصًا في أعماقه، ورصدًا لأشباهه ونظائره، أمَّا التفسير فيتجاوز المفسر فيه ذاته فيعتمد على مراجع كثيرة ومصادر متنوعة، ذات علاقة بكلمات القرآن الكريم، وانطلاقًا من أنَّ هناك كلمات غامضة تحتاج إلى كثير من الحذر، أمَّا المتدبر فينطلق من أنَّ القرآن المجيد قد يسره الله (جل شأنه) للذكر، فالفرق بينهما يستطيع الإنسان أن يدركه بيسر وسهولة، ولا ينبغي أن ندعو الناس إلى عدم التدبر تحت أي ذريعة من الذرائع؛ لأنَّ البديل عن التدبر أن يقرأ الناس القرآن هذرمة ودون وعي، مما يجعلهم مشابهين لأمم سبقوا في قراءات لكتبهم حالت بينهم وبين فهمها، واستحقوا بمقتضاها أن يقال لهم: بأنَّهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا.

فقد حذرنا الله (جل شأنه) من مسايرتهم والنسج على منوالهم، وإذا تمسكنا بالفكر الذرائعي سوف لن نختلف عن أولئك الأقوام، وسنحمل كتاب ربنا مثل حملهم لكتبهم، وبذلك ينْبَتّ ما بيننا وما بين الكتاب الكريم.

إنَّ الدعوة إلى التدبر انبثقت من أوامر إلهيَّة صارمة، واضحة بينة، لم تستثنِ أحد:﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(ص:29)، فعلى الجميع أن يتدبروا، ويتدربوا على التدبر ويمارسوه، ولا يلتفتوا إلى ذلك الفكر الذرائعي، الذي كثيرًا ما ذهب بريح أجيالنا المختلفة بعيدًا، وباعد بينها وبين كتاب ربها، وشغلها بكل شيء إلا بالقرآن المجيد.

لا شك أنَّ هناك أناس سيكونون مستعجلين، وانطلاقًا من عجلتهم قد يبادرون إلى إطلاق معان أوصلهم إليها التدبر الناقص الذي لم يبذل المتدبر فيه جهده بالتدبر حتى يعجز عن بذل مزيد، ثم يعلنه للناس على أنَّه معنى قاده إليه تدبره، وأنَّه أفضل من التفسير، فالتدبر قد يكون مقدمة للتفسير، وإحدى دعائمه، ولكن يبقى الفرق كبيرًا بين التدبر والتفسير؛ لذلك فإنَّنا لا ننصح المتدبرين أن يمنحوا أنفسهم لفرحهم بما نالوا من كرم القرآن المجيد أن يستعجلوا إعلان ذلك ومنح أنفسهم شهادات في التفسير والتأويل والتدبر، فالتدبر تفاعل بين القرآن والذات، بما تشتمل عليه من إخلاص، وتقوى، وخشوع، وإخبات، وإزالة للحجب، وتطهير لقوى الوعي من الوقر والأغشية والحجب، وجعلها قوى سليمة تمام السلامة؛ لتلتقط ما يجود القرآن به من عطاء، والقرآن كريم، يكرم من يقبل عليه، ولا ينبغي أن يسارع إلى إذاعة ما ألهمه الله (جل شأنه) قبل أن يعاود القراءة والتدبر عشرات المرات، ومئاتها في بعض الأحيان، وإلا فسيتحول التدبر إلى فتنة، وقد تقع مشكلات كالتي يخافها ويحذر منها الذرائعيون. فدع تدبرك لنفسك ولمتدبرين أمثالك يناقشونك ويحاورونك حتى تنضج عندك الأفكار وعندهم، ويشعر الجميع بالعجز عن بذل مزيد، وأنَّ النتائج التي أوصل إليها التدبر لا تقع في نطاق ما ليس بمشروع ولا مقبول.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *