Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

سياسات التجهيل في العالم الثالث

أ.د. طه جابر العلواني

قد يستغرب البعض أن يكون للتجهيل سياسات وسياسيُّون متخصصون وإدارات ومؤسَّسات، لكن هذا هو الواقع، فكما أنَّ هناك سياسات للتعليم ومؤسَّسات ومتخصصون في قضايا التعليم فإنَّ للتجهيل سياسات، وهذه السياسات يرسمها شياطين الإنس والجن ويبلورونها، ويتابعونها حتى يطمئنون وتطمئن نفوسهم الخبيثة إلى أنَّ ما استهدفهوه قد تحقق، وإدارات سياسات التجهيل تعرف كيف تحدد في بادئ الأمر الأمور التي يجب أن تجهلها الشعوب، والأمور التي ينبغي أن تقدمها بمثابة المعرفة المغشوشة، التي هي مثل الأطعمة الفاسدة لها مخازنها ومستودعاتها في تاريخ البشريَّة، ومواريثها الثقافيَّة ومسلماتها وما إلى ذلك.

والمعرفة الحقيقيَّة العلميَّة بالنسبة للعالم الثالث تعد من المحرمات والممنوعات، وإذا كان أسلاف هؤلاء والمتقدمون منهم كانوا يكتبون الوحي الإلهي على الناس، ويلومون أولئك الذين تأبى ضمائرهم إلا أن يكونوا مخلصين أمناء في نقل التعليم والمعرفة: ﴿..أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(البقرة:76)،فإنَّ هؤلاء استمرار لذلك، وأحفاد لأولئك الأجداد الذين يبخلون بالوحي على عباد الله، فإنَّ هؤلاء يعتبرون كل معرفة صحيحة وعلم دقيق حرامًا على المسلمين، حرامًا على العرب، حرامًا على سواهم، ويتعاون مع أجهزة التجهيل العالميَّة المجهِّلون المحليُّون.

أذكر أنَّني كنت في زيارة لأحد كبار المسئولين في دولة عربيَّة، وكنت أنتقد السياسة التعليميَّة والإعلاميَّة بين يدي ذلك المسئول، ظنًا مني أو توهمًا بأنَّه سيقدر ذلك، ويعمل على التصحيح، وأذكر أنَّني قلت فيما قلت: إنَّ السياسات الإعلاميَّة والتعليميَّة فيما يبدو لي تزيد الجاهل جهلًا، وتصيب المتعلم بالحيرة والاضطراب، وهذا يسيئ إلى وعي الشعب الذين أردتم رفع مستوى الوعي فيه بتأسيس هذه الأجهزة وبناء هذه المؤسَّسات. وإذا بذلك المسئول الكبير يهب ويرد بعصبيَّة، ومن قال لك بأنَّنا نريد للشعب أن يعيي، إنَّ جهله أصلح له من وعيه، وبقاؤه على ما هو عليه أفضل له من هذا الذي تنادون به.

 ويبدو أنَّ الرجل كان صادقًا لدرجة أنَّه نسي من أنا، وما الذي كنت أحدثه فيه، وحين استيقظ على ذلك بدأ يحاول الاستدراك والتغطية، ولكن الحقيقة ظهرت في غفلة منه، فأدركت أنَّ أجهزة الخارج ومؤسَّساته لها قواعدها الداخليَّة التي تساندها في عمليَّات تجهيل الشعوب.

ومن وسائل التجهيل خلط الأولويَّات، وإطلاق بالونات بين حين وآخر تشغل الناس بكل ما هو سطحي وثانوي، يجعلهم أو يجعل الشعوب يتوهم أنَّ فيها أهل معرفة وخبرة واطلاع، بحيث يقوم هؤلاء بين حين وآخر بصياغة وإطلاق تلك البالونات ليشغلوا الناس بها، فواحد يحدثنا دون أي معرفة بعادات القرآن وأساليبه في التعبير عن القدر وليلة القدر، وآخر يحدثنا عن رضاع الكبير، وثالث يثير قضيَّة طهارة فضلات الأنبياء، ورابع وخامس وعاشر، وكل ذلك في إطار الأخسرين أعمالًا، الأخسرين علومًا ومعارف، الأخسرين إدراكًا ووعيًا، وهم يحسبون أنَّهم على شيء.

وتعقد حلقات العامَّة لتتكلم بهذا وبذاك، وتنشغل بما يطرح، فتزداد عمًا، وجهالة، وتيهًا، وحيرة، حتى تخور قواها المعرفيَّة، وتقول كما قال شاعرها من قبل:

والعيش خير في ظلال النوك ممن عاش كدا.

والنوك هو: الحماقة والجهالة، أو يقول:

وعالم عالم أعيت مذاهبه *** وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا.

هذا الذي ترك الأفهام حائرة *** وصير العالم النحرير زنديقا.

لقد عانت المسيحيَّة كثيرًا من هذه السياسات، وظل الأباطرة ورجال الدين يتوافرون ويتعاونون على استغلالها وتجهيل شعوبها سنين طويلة، بل أدخلوها في حروب لا تنتهي، فعلى رأس كل ألفيَّة يزعم بعض الدجاجلة أنَّ القيامة ستقوم على رأس الألف، وحين لا تقوم يقيمونها قسرًا بإشعال حرب هنا أو فتنة هناك، وعلى رأس كل مائة عام تخلق مجموعة من الفتن لإشغال العالم المسيحي عما يفعله الأباطرة والدجاجلة، وذلك كله يدخل في إطار معارك التجهيل.

واليوم صار الجهل والتجهيل علمًا يدرَّس لأقسام دراسيَّة خاصَّة، وفي جامعات أخذت على عاتقها العناية بتعليم ما يسمى بعلم الجهل، والتجهيل يمثل جزئيَّة من جزئيَّات ذلك العلم أو ذلك التخصص، فياليت قومي يعلمون، ويستعصون على سياسات الاستدراج والتجهيل، وينأون بأنفسهم عن أن يكونوا ضحايا لتلك السياسات.

اللهم إنَّا نعوذ بك من الجهل والعجز، ومن الفقر والمرض، ومن الجهالة والتجهيل، بك نستجير، وبك نصول، وبك نجول، وبك نستعصم، فاحفظنا من شرور الجهل والمجهلين، وباعد بيننا وبين شياطين الإنس والجن، إنَّك على ذلك قدير، وأنر بصائرنا بالقرآن العظيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *