Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

في توديع رمضان

أ.د/ طه جابر العلواني

أتريد أن تعرف إن كنت من المقبولين أو من المرفوضين في هذا الشهر الكريم؟

هذه الأيام المعدودات لشهر الصيام تجري بخطًا سريعة للوقوف عند محطتها النهائيَّة، وقد جعل الله (جلّ شأنه) للأعمال الصالحة المقبولة علامات، وأهم علاماتها أنَّها تزيد في إيمان المؤمن، وتثري خشوعه، وتساعده في لين القلب، وإخبات الجوارح، وتأخذ بيده إلى حسن الخلق، والتوبة النصوح، والاستغفار المستمر، وعدم العودة إلى الذنب مرة أخرى، إنَّه يخرج من الطاعة كالخارج من مستشفى كامل فيه أبرع الأطباء في سائر الأمراض، وكلهم قد عالج في المريض الجزء الذي يختص به، وبلغ الغاية، فإنَّه يخرج في هذه الحالة وقد اطمئن على نفسه، وزال قلقه، وشعر كأنَّه أصبح خلقًا جديدًا، وأنَّه يستأنف الحياة من جديد.

وهكذا نتوقع من حال أهل العبادة، فمن صام منهم رمضان إيمانًا واحتسابًا، أو حج البيت، أو أدى زكاة ماله بالتمام والكمال، أو أقام الصلاة، وشهد شهادة الحق، أن يخرج وقد تملكه ذلك الشعور والإحساس والسعادة لتغير كل شيء فيه، أمَّا من دخل المستشفى وخرج يشكو من كل ما كان يشكو منه قبل خضوعه للعلاج فإنَّه يعود بنفس كئيبة، وقلب قلق، واستعداد للانتكاس والارتكاس، والأمَّة مثل الأفراد يفترض أن تستفيد من مواسم الخير، وتحصل على التغيير الذي تريد.

 وإذا دخل عليها شهر مثل شهر رمضان لابد أن يدخل إليها بتغيير كبير، ويجعلها قادرة على التخلص من أمراضها، والتعافي من أدوائها، إلا أنَّ المؤسف أنَّ ما لاحظناه على الأمَّة في هذا الشهر الكريم فيه زيادات من الانحراف والبؤس، وانتهاك حرمات الله، والعبث بدين الله، والتغير إلى الأسوأ في كثير من الأمور.

في هذه الحالة يخرج هذا الشهر ليقول لربه ما قاله القرآن سابقًا، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان:30)، وشهر رمضان الذي تمضي أيامه سراعًا، وتطوى لياليه ينتهي ولم يتغير شيء في الأمَّة، فالقتلة يقتلون، والذبَّاحون يذبحون، والمبيرون يمارسون السوء، ويتذوقونه، والناس تُقتل، وتُذبح، وتُدمر عليها بيوتها، ويُذيق بعضهم بأس بعض، كل ذلك يحدث ولم يتوقف منه شيء في شهر رمضان، بل ربما زادت فيه المآسي، وتعلم البعض كيف يخلطون بين المعصية والطاعة، ويدمجون الخير بالشر، ويخلطون النقائص بالكمالات، وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعًا، ونسوا وتناسوا أنَّ الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وأنَّه لا يقبل العمل إلا خالصًا لوجهه، نقيًا من الشوائب، صافيًا صفاء شريعته، نقيًا نقاء كلماته؛ لذلك فإنَّ الأمَّة حرمت من الاستفادة بما في دينها من أنوار، وبما في عباداتها من تزكية، وبقيت أحوالها كما هي، تتدلى من درك إلى ما هو أخفض منه، وما من حل لهذه الحالة إلا أن يَعمد كل منَّا إلى أن يتوب إلى الله، بعد مراقبة نفس، ومحاسبة ضمير، ويرجع إليه، مخلصًا له الدين، باحثًا عن آثار العبادة فيه، فأهم آثار الصلاة أن تحدث في القلب خشوعًا وتنهى عن الفحشاء والمنكر: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (العنكبوت:45)، وأنزل القرآن شفاء للصدور وهدى ورحمة، وإحياء للقلوب والنفوس: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (يونس:57)، ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (الزمر:23)، ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (الحديد:16)، وأمَّا الحج فلعل الحاج يتعلم كيف يقصد الله (جلّ شأنه) ويستشعر رحمته، ويستمطر مغفرته وهو في بيته، ويشد حزامه استعدادًا للرحلة الأخيرة لملاقاة ربه، فهو يلاقيه حاجًا، وما تزال لديه فرصة للعمل والأمل، طالت أم قصرت، ولكن حين يدعى إلى الموت ولقاء ربه لا تكون الفرصة إلا للحساب والجزاء والثواب والعقاب: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج:32)، وفي الزكاة يشعر بنعم الله عليه، ويطهر قلبه ونفسه من البخل والشح وعبادة المال وتقديسه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (التغابن:16-17)، والزكاة والصدقة تمد حبل الود والحب مع  الآخرين، فحبه لعباد الله وإعطاءهم حقوقهم والزيادة عليها بالصدقة لعله يجعل الله المنان يوجه شيئًا من رحمته له؛ لأنَّه رحم عباده: ﴿.. فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(المزمل:20)، والشهادتان تطهران الإيمان، وتزيدان في اليقين، وتخلصان القلب لله، والعمل له، وهكذا.

فإذا صمنا عن الطعام والشراب وأمسكنا عن شهوة النساء، لكنَّنا زدنا في القتل وسفك الدماء والاعتداء على الأبرياء وقتل الأطفال والنساء فأي صيام هذا، وأيَّة حرمة للشهر تبقى في النفوس والقلوب؟! والمسلمون اليوم وقد استحر القتل فيهم، واستهانوا بالنفس البشريَّة، واستحلوا الدماء التي حرم الله، أحوج ما يكونون قبل أن تنتهي هذه الأيام المباركة إلى أن يقفوا لله مثنى وفرادى ثم يتفكروا في أحوالهم، وما وصلوا إليه، وما بلغوا من التردي، والجور، ثم يتوبون إلى الله توبة نصوحًا، حكامًا ومحكومين، أغنياءً وفقراء، عامةً وعلماء، لعل الله (سبحانه وتعالى) يمن علينا وعليهم بتوبة نصوح، ونظرة رحمة، ومغفرة، وعتق من النار. ربنا اكشف عنا العذاب إنَّا مؤمنون، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا اعفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، ربنا لك تبنا وإليك أنبنا، وعليك توكلنا، وإليك المصير.

لعل الله (جلّ شأنه) يقبل دعوة، ويكشف غمة، ويفرج كربة، ويشمل بقايا هذه الأمَّة بمغفرته ورحمته ورضوانه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *