ولعلهم يرجعون
(3)
أ.د/ طه جابر العلواني
قال المسلم للداعشي: لقد أعطيتم سبعمائة شخص الأمان من أهل الرقة، وكلهم مسلمون، ومن السنَّة، ولما استسلموا لكم قتلتموهم جميعًا، فأي دليل من الكتاب أو السنَّة استدللتم به أو يشهد لكم أنَّكم قتلتموهم بحق، لقد استهدفتم في العراق سائر المدن السنيَّة، وقتلتم ما يزيد عن أربعمائة من أئمة المساجد، ودمرتم مساجد تعلو فيها كلمة الله، ويذكر فيها اسم الله كثيرًا، وقتلتم الأطفال والنساء دون تمييز، فائتني بدليل شرعي واحد يسمح لكم بأن تمارسوا كل هذه الجرائم التي تُجَرِّمها الشريعة، وسائر القوانين التي عرفتها البشريَّة؟
قال الداعشي: إنَّ هؤلاء الذين نقتلهم بعد إعطائهم الأمان إنَّنا لم نعاهدهم أو نعطيهم الأمان إلا لنتغلب عليهم، ونتلافى أن نخسر من جنودنا المؤمنين أي أحد، وقد تعلمنا أنَّ الحرب خدعة، وإذا لم نخدع فإنَّ أعداءنا سوف يخدعوننا، ولن يحول بينهم وبين خداعنا شيء.
قلت له: وهل الحرب خدعة آية قرآنيَّة؟
قال: لا، ولكنَّها مرويَّة كأثر، أو خبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن لم نفعل إلا أن أخذنا بهذا الأثر وطبقناه، كما أنَّ استغفال الخصم ومباغتته وأخذه على غرة أمر يبيحه الشرع، وفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو قد غزى غزوة بني المصطلق وأهلها غارون، وأنَّ هذا الحديث أخرجه البخاري، فلا تثريب علينا إذا فعلنا ما فعل قبلنا، وتأسينا بهذا الحديث الشريف.
قلت له: أترى أنَّ هذه الرواية -لو صحت- يمكن أن تقدم على قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ (الأنفال:58)، ثم ألم تسألوا أنفسكم لماذا أمر الله رسوله أن يؤذن في الناس يوم الحج الأكبر أنَّ الله بريء من المشركين، ورسوله بريء منهم كذلك: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة:3)، فلو أنَّ اقتحام المدن والقرى يجري بالطريقة التي فعلتموها وتفعلونها لما قال الله (جل شأنه) لرسوله ذلك.
قال الداعشي: قد تكون على حق ولكن خليفتنا البغدادي والفقهاء الذين معنا اجتهدوا، والمجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر.
قلت: إنَّ خليفتك البغدادي لم يشم رائحة العلم فيما نعلم؛ لأنَّ للاجتهاد منهجًا وضوابطًا وشروطًا لا يتوفر شيء منه فيه، ولا في جميع الأسماء التي عرفت بينكم بأنَّها من خبراء الفقه والشريعة، فهم جهلة، قصارى ما يفهمونه بعض مصطلحات شرعيَّة أو فقهيَّة، يرددونها دون معرفة بخلفيَّاتها ومعانيها، أمَّا القرآن فيهملونه، وأمَّا السنَّة فلا يفرقون بين الرواية والدراية، ولا يعرفون كيف يخرجون الأحاديث تخريجًا علميًّا ليتبينوا صحتها من عدمها، ودرايتها وروايتها، ومعانيها وأسانيدها، ولا يحيطون بمذاهب الفقهاء واختلافاتهم، وأسباب الاختلاف، ولا عناية لديهم في الفقه المقارن، ولا طاقة لهم بذلك كله، ولا بشيء منه، وكل ذلك لا يؤهلهم لأن يمارسوا الاجتهاد الذي يحتاج إلى أئمة مثل: الإمام أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، وأحمد، والثوري، وغيرهم، أو من نسج على منوالهم، وسار سيرتهم. كما أنَّ الجرائم المرتكبة من المعلوم من الدين بالضرورة والبداهة حرمتها، وضرورة صيانتها، وتحريم المساس بها، إلا بدليل قرآني صريح، فقتل الإنسان، أو إزالة عضو من أعضائه، لا يمكن أن يقبل فيها إلا الدليل القطعي، وذلك هو القرآن، لأن حرمتها قد ثبتت بالأدلة القطعيَّة، فلا يقابل القطعي إلا بقطعي مثله، وأنتم لا تدركون ذلك، وتأخذون بالشبهة، وتحرقون وتغرقون متابعين لأفعال الظلمة، الذين كانوا يتمسحون بنسبة ما يفعلون كذبًا إلى نظائر من أفعال الصحابة والتابعين وأئمة آل البيت، وكل أولئك أبرياء مما ينسب إليهم في هذا المجال، فأنتم ترتكبون جرائم وتحسبون أنَّكم تحسنون صنعًا، وتصدون عن سبيل الله، وتوهمون أنفسكم أنَّكم تدعون إلى الله، وكل ذلك دخل عليكم من جهلكم الفاضح الصريح بالأحكام الشرعيَّة والقواعد الفقهيَّة والمناهج الأصوليَّة.
وإذا صبرت عليَّ، وطلبت مني أن أصفكم، فإنَّني لا أستطيع أن أقول فيكم إلا أنَّكم أناس فهمتم كتاب الله كما فهم أهل البقرة كتاب ربهم، وأسأتم فهم دين الله، وحملتموه على أهوائكم، وفسرتموه وفقًا لعاهات ابتليتم بها أو تعرضتم لها في مجتمعات سادها الاضطراب، وعجزت عن تربية أبنائها، واحتواء واستيعاب الطاقات الجديدة، وإعطائها الفرص لتعبر عن نفسها، فأصيبت بجراحات نفسيَّة، وعاهات وأمراض عقليَّة ومزاجيَّة، ألقت بهم في متاهات العنف، ومضايق التدمير، فصاروا فتنة، ومصدر قلق، ومارسوا الجريمة، وهم يجعلون المسلمين كالمجرمين.
إنَّكم يا بني أحوج ما تكونون إلى التوبة النصوح، وإلى من يبصركم بما أنتم فيه وعليه، ويكشف لكم عن أخطائكم وجرائمكم وانحرافاتكم، ويضعها تحت أنظاركم، لتشهدوها بأنفسكم لعلكم تتوبون إلى الله، وتستغفرونه، وتجنبون عباد الله فتنكم وشروركم وبلاءكم، ولعل الله يغفر للمغرَّر بهم خاصَّة، ولمن اجتالتهم الشياطين عن الصراط السوي ومن اهتدى.
وأمَّا تسويغكم ما تفعلون بأنَّ “جحش” جيش الحشد الشعبي وحكومة العراق الطائفيَّة المتمسحة باسم حزب الدعوة، وحكومة سوريا المنهارة، ترتكب ضدكم وضد من تحبون أشنع الجرائم، فالجريمة لا تبيح الجريمة، والعدوان لا يبيح العدوان بشكل مطلق، ولكن يبيح رد العدوان وصيالة الصائل بعدم إيقاع الضرر على غير المعتدي، وأنتم تعتدون على أطفال ونساء ومسالمين وأبرياء وهذا أمر كله لا يقبل بحال من الأحوال، فأين تذهبون؟
إنَّ الله (سبحانه وتعالى) قد قال في كتابه العزيز في كفار قريش: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (الفتح:25)، فالآية صريحة بأنَّ هناك أناسًا أبرياء ورجالًا لا يستحقون أن تطأهم سنابك الخيل، وأدوات القتال، وهم أبرياء، فيوقف الله (جل شأنه) التنكيل بهؤلاء المصرحين بكفرهم وصدهم عن سبيل وقتالهم لنبيه ولأصحابه، ويقول: لو أمكن فصلهم لعذبنا الذين كفروا عذابًا شديدًا، ولسلطناكم عليهم، فيفترض أن يكون لوجود الأبرياء حرمة لدى من يؤمن بالله ربًا وبالقرآن كتابًا وبرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيًا ورسولًا، فأين منكم هذه الآيات؟ ومن الذي أباح لكم قتل الأبرياء، واستباحة أعراض النساء، والقياس على وقائع تاريخيَّة لم تستطيعوا فهمها ولا التأكد من صحتها، ولو صحت لما أمكن أن تكون أدلة معتبرة يأخذ الفقيه بها، فأين تذهبون؟
وإلى اللقاء في حلقة قادمة.