أ.د/ طه جابر العلواني
حصر الله –تعالى- الحمد بمن هو أهله، وبالمتفرد باستحقاقه، ومن لا يليق بالعبد توجيه الحمد الكامل إلّا له؛ لتفرده بربوبيَّة العالمين، وكل ما تقتضيه تلك الربوبيَّة المطلقة من صفات، في مقدمتها صفات الحياة والقدرة والقيُّوميَّة والعلم المحيط الشامل وسائر صفات الكمال التي تليق بربوبيَّته –سبحانه- وألوهيَّته- عز وجل- ومنها صفتا “الرحمن الرحيم”، فهاتان الصفتان تليقان بربٍّ خلق الخلق في أحسن تقويم، ورزقهم من السماء والأرض، وسخَّر لهم كل شيء من شأنه أن يمكِّنهم من عبادته، والقيام بمهام الاستخلاف، وتجاوز همزات الشياطين ووساوسهم.
وإدراكُ العبد لمعاني الربوبيَّة كفيل بقيادة ذلك العبد إلى “التوحيد الخالص”، وتجاوز الشرك بكل أنواعه، وتحرّر وجدان العبد من الخضوع لأيّ ربّ عدا ربّ العالمين. فهو من إذا دعوته سمعني. وهو من يملك نفعي وضرّي فأرجوه لنفعي، وألجأ إليه لكشف ضري؛ لأنَّه الذي خلقني وربَّاني، وهو من يملك قيادتي وتوجيهي نحو سبيل الهداية، فهو يهديني السبيل الأقوم. ولربوبيَّته لي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، وهو- وحده- من يملك أسباب موتي وحياتي، “فهو الذي يميتني ثم يحييني، وحين أخطئ أو أذنب فهو- وحده- الذي يغفر له خطيئتي، ويمحو ذنبي، ويعفو عني يوم الدين؛ لأنَّه- وحده- مالك يوم الدين لا أحد يشاركه الأمر، أو يملك الشفاعة في ذلك اليوم إلا هو، ومن يرتضي ويأذن له من رسله الكرام. وهذا الربُّ المتفرِّد بالربوبيَّة، متفرِّد كذلك بالألوهيَّة فلا معبود غيره، ولا إله سواه، ولا معين إلا هو.
فبذاته العليَّة يجب أن نحصر عباداتنا بكل أشكالها ومستوياتها، وبذاته وجلاله ينبغي أن تكون استعانتنا. فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ (النمل:62)، وهو الذي جعلنا خلفاء الأرض، وهو الذي سخَّر لنا كل شيء. فهو سبحانه الذي خلق لنا السماوات والأرض، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لنا، وسخَّر لنا الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لنا الأنهار. وسخَّر لنا الشمس والقمر دائبين، وسخَّر لنا الليل والنهار. وأعطانا من كل ما سألناه وما لم نسأله بحيث أصبحت نعمه علينا مما لا يحصى ولا يحيط به عدوٌّ أو عدد. وهو الذي يرزقنا من السماء والأرض دون توقف، ودون اعتبار بطاعاتنا أو معاصينا: ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم:32-34).
وهو الذي سخر لنا البر والبحر والجو، وشفع بكل ما خلق. وهو من زودنا بقوى الوعى من سمع وبصر وقلوب وأفئدة. وهو من يملك استرداد ذلك- كلّه- إن شاء وحرماننا منه. وهو من يهدينا إلى الحق لا يهدي إليه أحد سواه. وهو الذي أنعم علينا بالقرآن العظيم والذكر الحكيم تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة ونورًا وموعظة وشفاءً لما في الصدور. وهو الذي يرسل علينا الحفظه، ويجعل منهم معقِّبات يتعاقبون فينا بالليل والنهار يحفظوننا من أمره بأمره، وهو الذي سخَّر لنا البحر لنأكل منه لحمًا طريًّا، ونستخرج منه حلية تزيد حياتنا جمالًا وبهاءً وزينة، ونسيّر فيه بالسفن الجواري كالأعلام لننتقل بها من موقع لآخر نبتغي من فضل الله.
وهو الذي أنبت الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، وخلق لنا الخيل والبغال والحمير لنركبها وزينة لنا في حياتنا، وتحمل أثقالنا، وخلق لنا الأنعام فيها دفء ومنافع وطعام نأكله، ولنا فيها جمال حين نريح وحين نسرح. إضافة إلى الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. وهو من جعل لنا الأرض مهادًا وألقى فيها رواسي أن تميد بنا، وجعل فيها أنهارًا وسبلًا وعلامات نهتدي بها. وهو الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجًا وجعل لنا من أزواجنا بنين وحفدة، ورزقنا من الطيّبات. وهو الذي جعل لنا من بيوتنا سكنًا، وجعل من جلود الأنعام وأشعارها وأوبارها بيوتًا خفيفة متنقلة نسكنها عندما نكون في حال ارتحال وتنقل أو في حال إقامة إن شئنا. ونتخذ من أشعارها وأصوافها وأوبارها متاعًا وأثاثًا.
هذا كله وكثير غيره تستدعيه وتستحضره في العقل والقلب والوجدان تلك الآيات الأولى من هذه السورة العظيمة سورة الفاتحة؛ إنَّها تستدعي القرآن- كلّه- ليكون حاضرًا في ذهن وعقل وقلب قارئها المصلّى. فلا يغيب شيء منه عن قوى وعي القارئ المصلّي المتدبِّر؛ ولذلك فإنَّه يعلن التزامه التام بحصر عبادته واستعانته بهذا الرب العظيم ربّ العالمين، فلا يعبد إلهًا غيره، ولا يتخذ لنفسه ربًّا سواه، ولا يستعين إلا به، ولا يستهدي إلا به سبحانه “لا يشرك به أحدًا”، وأنَّى له أن يفعل وقد تفرد –سبحانه- بخلق السماوات والأرض، وهو: الذي أنزل من السماء ماءً، فأحيا به، الأرض بعد موتها، وأنبت فيها من كل زوج بهيج وأنبت فيها حدائق ذات بهجة: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ (النمل:60)، ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (ق:6-7)، وهو الذي يهدينا في ظلمات البر والبحر ويرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته: ﴿أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (النمل:63)، وهو الذي بدأ الخلق ثم يعيده. وهو الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبر سبحان الله عمّا يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى ندعوه بها، ونستعين بها، ونعبده بها. ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الحشر:22-24). ومن عرف ذلك- كلّه- عن الله ربّ العالمين أنَّى له أن يرغب أو يرهب أو يرجو أو يستعين بغيره سبحانه؟!
وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. ويغيث المستغيث إذا ناداه. وهو القريب إلينا، فهو أقرب إلى كل منَّا من حبل الوريد سميع بصير، خبير مجيب، عليم قدير. سبحانه. ولذلك فإنَّ دعاءنا مسموع عنه، مقبول لديه. وأهم ما تتوقف عليه سعادة الإنسان الهداية إلى الصراط المستقيم، والثبات عليها، والاستمرار والدوام في سلوك سبيلها. ولذلك فإنَّنا نستهديه سبحانه وندعوه في هذه السورة التي نقرؤها في اليوم والليلة عدة مرّات: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ (الفاتحة:6)، وحاجتنا إلى ترديد وتكرار هذا الدعاء والإلحاح به؛ لأنَّ هناك عدوًّا يتربص بنا، وبمجرد أن نعشو عن ذكر الرحمن أو نغفل ولو للحظة فإنَّه يقفز ليجعل من نفسه قرينًا لنا يجتالنا عن سبيل الهداية، ويقودنا بعيدًا عن الصراط السويّ ليلقى بنا في مهاوي الانحراف والضلال والغواية، وصحارى التيه في الأماني، ويزيّن لنا تلك السبل، ويحرِّك في نفوسنا أسوأ ما فيها. ليجعلنا بعيدين عن هداية ربّنا، فهو عدوّ لله، عدو لنا، لا يتردّد عن القيام بأيّ شيء من أجل إضلالنا، وقطع صلتنا بربنا- جل جلاله.
فنحن أحوج ما نكون إلى اللجوء إلى الله- تعالى- والاستعاذة به من هذا العدوّ المبين. فبدون هدايته سبحانه، واللجوء الدائم المستمر إليه فإنَّنا لا قبل لنا بمواجهة هذا العدو الخطير، الذي لا يتردد بمهاجمتنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا؛ كيلا نكون من الشاكرين له سبحانه.
إنَّ حاجة الإنسان إلى الهداية مثل حاجته إلى الحياة، بل إنَّ الحياة المنحرفة الضالَّة موت مبكر. فالهداية هي الحياة الحقيقيَّة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال:24). فالهداية هي الحياة الحقيقيَّة الطيبّة، والذي يحول بين المرء وقلبه هو القادر أن يحول بين الشيطان وبين الوصول إلى قلوبنا، والتأثير عليها. وتزيين سبيل الشيطان لها. وهو القادر سبحانه على أن يهدينا، ويجعل لنا فرقانًا نفرق به بين الخير والشر والحق والباطل، والهدى والضلال.
فطلبنا الهداية، ودعاؤنا أن يثبّتنا- سبحانه- على سبيلها دعاءً يشتمل على طلب الحياة الطيّبة الحقيقيَّة، والمنّ علينا “بالفرقان” نفرّق به بين الحق والباطل والخير والشر والهدى والضلال. بحيث يعزّز جوانب الفطرة فينا، ونعتصم بذلك من الشيطان. وفي دعائنا هذا ندرك أنَّ السبل كثيرة متعدّدة متشعّبة، لكنَّ سبيلًا واحدًا منها هو الصراط السويّ وهو السبيل القويم، وهو الحق: ﴿.. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ (يونس:32) ، فنحن نسأله- تبارك وتعالى- أن يمنّ علينا بالهداية إليه، فهو: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة:7)، ذلك لأنَّ معرفة الصراط السويّ لا تكفي إلّا بعد أن يهدينا الله لسلوكها. ويضعنا- سبحانه- عليها.
وهناك إشارة إلى أنَّ خلاص الإنسان حقيقة يتوقف على وجود جماعة- أمَّة مهتدية ينحاز الفرد إليها، ويكون واحدًا من أبنائها. فالصراط المستقيم صراط أمَّة تسلكه فتحقق بذلك الحماية للسالكين الذين أنعم الله عليهم بالهداية والحياة الإيمانيَّة والفرقان، فاتخذوا الصراط السويّ لهم صراطًا. فدعاؤنا: باهدنا الصراط المستقيم نريد صراط الذين أنعمت عليهم: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة:6-7) أي إنَّنا نسأله –سبحانه- أن يهيئ أمَّة خيّرة وسطًا تستقيم على الطريقة، وتتخذ من الصراط المستقيم صراطًا لها. هذه الأمَّة هي التي ندعوه –سبحانه- أن يسلكنا في عدادها ويضمنا إليها. ويجعلنا منها وعلى صراطها.
وهو غير صراط المغضوب عليهم الذين لعنهم الله بنقضهم ميثاقهم، وجعل قلوبهم قاسية، يحرفون كلام الله عن مواضعه، ونسوا حظًا مما ذكروا به. وكفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه، واتهموا بعضهم بأشنع التهم وأكلوا الربا، وروَّجوا للتعامل به وأكله، وأكلوا أموال الناس بالباطل، واستحلوا السحت والمال الحرام وعبدوا العجل، وتمنّوا عبادة الأصنام فغضب الله عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور. فنالهم من الله غضب وذلّة في الحياة الدنيا. هؤلاء الذين أغضبوك يارب جنبنا سبيلهم، واصرفنا عن صراطهم، وباعد بيننا وبين الوقوع فيما سقطوا فيه.
وكذلك نسألك يا ربنا أن تجنبنا سلوك وصراط الضالّين الذين أريتهم طريق الهداية فتنكبوها، ودعوتهم إلى التوحيد فأشركوا، وزعموا أنَّ ذلك ما دعتهم رسلهم إليه وهم لم يدعوهم إلا إلى الإيمان بك وتوحيدك وعبادتك وحدك، واتقوك يارب، وأخذت ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذكروا، وزعموا أنَّهم أبناؤك وأحباؤك وأولياؤك، وغرتهم أنفسهم فضلوا كثيرًا وأضلوا عن سواء السبيل.
وفي هذا يستحضر المصلّى سائر ما ورد في القرآن المجيد من خصال “المغضوب عليهم والضالّين” وسبلهم التي سلكوها، وذنوبهم التي ارتكبوها، ويستعصم بالله ويستعيذ به سبحانه أن يكون منهم، أو أن يسلك سبيلهم، أو يسقط فيما سقطوا فيه. وأن يثبته الله على صراط الذين أنعم الله عليهم ليكون من المؤمنين المفلحين.
إن من يقرأ هذه السورة مرات عديدة في اليوم والليلة يستحضر هذه المعاني ويتذكر مختلف السبل ويشكر الله أن هداه الصراط السويّ.