ولعلهم يرجعون
(2)
أ.د/ طه جابر العلواني
وأكمل الداعشي تعريف نفسه بقوله: وأنا إنسان ينظر إلى الزمن على أنَّه تعاقب وتكرار، وأنَّ ما يحدث في وقت يمكن أن يعاد إحداثه في وقت آخر، وقد يسميني البعض سكونيًا في تفكيري، ولا مانع لدي من أن أوصف بهذا، ما دمت أحاول أن أكرر ما حدث في العصور الزاهرة، عصور الأنبياء والمرسلين، وجيل الصحابة، والتابعين.
قال المسلم: ثم ماذا؟
قال: وقد خلَّفت الأمَّة لي من علماء الصحابة والتابعين تراثًا متنوعًا، في السلم والحرب، والاختلاف والائتلاف، وأنا ابن ذلك التراث ووارثه، والحريص عليه، أنتقي منه ما أشاء، وألتقط منه ما أريد، فكله تراثي، أنهل من مرجعيتي، وأستند إليها بشكل أو بآخر، وأنا أؤمن أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء قريشًا بالذبح، وبالقتل، لحملهم على الإسلام وفرض الإسلام عليهم، وأؤمن أنَّ الجهاد والقتال كله إنَّما هو لحمل الناس على الإسلام، وفرضه عليهم، فإمَّا الإسلام وإمَّا الذبح، والذبح لي أن أمارسه بكل الأشكال التي مورست في الواقع التاريخي، فيمكن أن يكون ذبحًا كذبح الخراف بالسكاكين، ويمكن أن يكون قتلًا، ونسفًا، وتغريقًا، وتحريقًا، المهم أن يكون مخيفًا، يزرع الخوف في قلوب الأعداء، ويغرس هيبتي والخوف مني في نفوسهم، وأنا اعتبر أنَّ كل ذلك التراث تراث يستند بشكل أو بآخر إلى المرجعيَّة القرآنيَّة والنبويَّة، ذلك أنا. قرأت في كتب الفقهاء أنَّ ديار الإسلام تصير ديار حرب بظهور أحكام الكفر فيها، وقد ظهرت أحكام الكفر في جميع نواحي الأرض، فلم أعد أقيم وزنًا لهذا الذي سمي في التراث دار إسلام؛ لأنَّ هذا التعريف لا ينطبق على أي دار في الوقت الحاضر، وبالتالي فأنا أتعامل مع سائر بقاع الأرض وشعوبها تعاملًا موحًدا، إلا إذا ظهر منها علنًا ما يفيد غير ذلك. فماذا تنقمون مني؟ ومن أنتم؟
أجاب المسلم: إنَّنا مؤمنون مسلمون، آمنا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيًّا ورسولًا، وبالقرآن هاديًا، وبما نقل عن رسول الله غير القرآن وصح عنه أنَّه بيان وتطبيق لهذا القرآن المجيد وفهم له في أعلى المستويات، وأرقاها، نؤمن بأنَّ الحكم لله، ونؤمن بأنَّ الله (تبارك وتعالى) منح الحريَّة للإنسان أن يؤمن أو يكفر في الحياة الدنيا، ولا حساب ولا عقاب ينتظره إلا في الدار الآخرة، ونؤمن كما علمنا القرآن وشهد بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ النفس الإنسانيَّة مصونة محترمة، لا يجوز انتهاكها وسفك دمها إلا بحقها، وحسابها على الله، كما نؤمن بأنَّه لا حجة في قول أحد أو فعله إلا بما أنزل الله به سلطان، فالحكم لله العلي القدير، لا لأي من الناس، ونؤمن بأنَّ الساعة التي تنقضي يستحيل أن تعود مرة أخرى، أو ترجع مرة ثانية، وأنَّ الأيام في سيرها تأتي دائمًا بالجديد، والمتغير، فالتغيرات التي تحدث تغيرات نوعيَّة، لا كميَّة فقط، ونؤمن أنَّ تراثنا فهم بشري، فيه الصواب وفيه الخطأ، ولا يجوز أن نضفي عليه صفة الصواب بإطلاق، ولا الخطأ بإطلاق، ونؤمن أنَّ الإسلام جاء لصيانة النفس البشريَّة، والعقل الإنساني، وأعراض الناس، وأموالهم، وأديانهم، وأنَّه لا أحد على وجه الأرض يملك إكراه إنسان على تغيير دينه، أو إيمانه، أو يملك الحق في سلب ماله، أو انتهاك عرضه، أو سفك دمه، أو القيام بأي نوع من أنواع الاعتداء عليه، وأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي الرحمة، لم يأت بالذبح ولم يكن نبي الملحمة، بل هو نبي المرحمة، والصفح، والتسامح، والبعد عن الاضطهاد، ونرى أنَّ الله (جل شأنه) أورث هذه الأمَّة الكتاب، وقال (جل شأنه): ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32)، وظلم النفس وارتكاب الذنب لا يخرج الناس من الإيمان، ولا يريق دماءهم، ولا يسلط أحدًا على أعضائهم، إلا بما هو في إطار الحدود والقصاص الشرعي، الذي لابد من الوصول به إلى درجة اليقين، ولابد من عرض العفو والدية قبل الوصول إلى القصاص. وما ننقمه منكم أنَّكم فهمتم الإسلام فهمًا ناقصًا، وحملتم نصوصه على أبعد المحامل، دون حجة، وأخذتم بآراء صحابة لم تتأكدوا من صدق قولهم لها أو صحة نسبتها إليهم، وأسرفتم في القتل، وفعلتم وفعلتم، وكل ذلك لا تراعون فيه ولا ترقبون إلا ولا ذمة، ونسبتم أهل الإيمان إلى الكفر، واستبحتم منهم ما لم يبح الله شيئًا منه لأحد، ثم تزعمون أنَّكم في ذلك متبعون لا مبتدعون، فمن الذي سوغ لكم ذلك، إن عندكم من سلطان بهذا أن تقولوا على الله ما لا تعلمون؟.
ولقد ذكرتم في مواقعكم أنَّكم تنتشرون في المدن السنيَّة في العراق، وكذلك في سوريا، ألم يكن الأولى بكم إذا كنتم تريدون إحقاق الحق والانتصاف لأهل السنَّة أن تتجهوا نحو خصومكم وأعدائكم في أي مكان يكونون، وأن لا تعرضوا من يشاركونكم قواعد الإيمان للهلاك، لقد حاربتم مع القاعدة في أفغانستان وكانت النتيجة أن هزمتم الشيوعيين، وسلمتم أفغانستان لخصومهم الأمريكان، ثم جاء مصعب الزرقاوي ومن معه وزعم أنَّه إنَّما يقاتل الأمريكان، والمقاتل التي ارتكبها هو ومن معه كانت أبعد ما تكون عن الأمريكان أو حلفاء الأمريكان، وها أنتم تكررون الأعمال نفسها، وترتكبون وتكررون الجرائم التي سبق للقاعدة وللزرقاوي ارتكابها.
من الذي أمركم بجلد من يحلق لحيته، وأي دليل شرعي يدل على أنَّ من يحلق لحيته يعزر بالجلد، فإذا لم يطلقها ومسك مرة أخرى فإنَّه يقتل؟ أي فقه يسمح لكم بأن تنهبوا أموال الناس، وتستولوا عليها، وتسمونها غنائم؟ وهي أموال محترمة لمسلمين يشهدون شهادة الحق، ويوقنون بالإسلام وبشريعته وبمصادره، من الذي يبيح لكم تعريض الأبرياء من أطفال ونساء ومتقدمين في السن للمخاطر، وجعلهم عرضة لكل أنواع الأسلحة المدمرة من الآخرين؟ لعل أحدكم يثير “قضيَّة التترس” التي بحثها بعض الفقهاء في القرن الخامس الهجري، وهي قضيَّة التترس من غير المسلمين بمن لا يستحقون القتل من الأطفال والنساء. أو أيَّة دفائن أخرى في التراث لا يفهمها إلا الجهابذة من العلماء، ولا نعرف أحدًا من قادتكم والمتعاونين معكم يصلح لهذا النوع من المعرفة، أو يحمل أيَّة أهليَّة للاجتهاد، فتوبوا إلى الله جميعًا قبل فوات الأوان، فقد دمرتم أفغانستان، وأنتم الآن تدمرون في سوريا والعراق، وتدَّعون أنَّكم تريدون تحريرهما من الإيرانيين، لكن سياساتكم الرعناء الفاشلة الصبيانيَّة وتحركاتكم الإجراميَّة سوف تنهي الوجودي السني في العراق، وكذلك في الشام، وتنتهي بتسليمها إلى من لا يعلمه إلا الله، قد تكون الإيرانيين في بادئ الأمر ثم يتلوهم الإسرائيليُّون أو أيَّة فئة أخرى، فحرب العصابات التي تمارسونها لا يمكن أن تكون حربًا عادلة، ولا حربًا يمكن أن تحقق انتصارًا لأحد إلا للشيطان، لقد آن الأوان بعد كل التدمير الذي رأيتموه وبعد أن اكتشفتم أخطاء قادتكم من أسامة بن لادن، مرورًا بأيمن الظواهري، وأبو مصعب الزرقاوي، والمقدسي، والبغدادي، وغيرهم من أهل الكنى أن تعودوا إلى رشدكم، فالرجوع عن الخطأ فضيلة، إنَّكم مثل أولئك الذين قال الله فيهم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف:103-104).
إنَّ علاجكم التوبة النصوح، والتكفير عما ارتكبتم، والتوقف عن استنزاف بلاد المسلمين، وتدميرها لصالح من هب ودب، فلقد تحولتم بقلة تبصركم وضئالة فقهكم وسذاجة فهمكم لدين الله إلى أدوات بأيدي الشياطين، شياطين الإنس والجن، الشياطين السريين والعلنيين، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا؛ فيخدعونكم ويغرونكم.
إنَّني أخشى أن تكونوا مثل جماعات جهاديَّة أخرى سبقتكم وها هي قد كفرت بماضيها، فندمت عليه، وأعلنت رجوعها عما ارتكبت، وتوبتها عما فعلت، ولات حين مندم، فهي توبة متأخرة جاءت بعد أن أهلكت الحرث والنسل، ومع ذلك فإنَّنا نتمنى لكم أن تتوبوا إلى الله جميعًا، وتثوبوا إلى رشدكم، وكفاكم تدميرًا وقتلًا وذبحًا بمجرد شبهات عشعشت في أذهانكم. نسأل الله أن يحفظ البلاد والعباد من جميع الشرور والآثام، فلم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاف على الأمَّة من الكفر: إنَّ الشَّيطانَ قد يئِسَ أن يعبدَ في أرضِكم هذِهِ أبدًا، ولَكنَّهُ رضي أن يطاعَ فيما سوى ذلِكَ. مثل ما أنتم فيه، ويجب أن تتجاوزا هذا الافتئات على الأمَّة وهذا التسلط عليها وهذه الأخطاء الفاضحة، لقد استوليتم على دور الناس وممتلكاتهم بالقوة، وبدون تعويض أو دفع ثمن، وأبحتم لأنفسكم أخذها عنوة، والتصرف فيها دون وجه حق، وهي أموال حرام عليكم، فاتقوا الله، واعلموا أنَّ من يعش عن ذكر الرحمن يقض له شيطان فهو له قرين ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (الزخرف:36-37).
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.