Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

أنذل من في العرب

أ.د.طه جابر العلواني

هناك قصة مشهورة يتداولها شيوخ العرب في البادية، مفادها أنَّ هناك شيخًا – من كبار شيوخ العشائر- كانت له فرس أصيلة قد تكون “صقلاوية”، كان يحبها ويعتز بها، واشتهرت بأنَّها فرس لا تُسبق، فما دخلت في سباق إلا وسبقت سائر الخيل، وقد خاطبه شيوخ العرب وثمَّنوها بأغلى الأثمان؛ لكنَّ الرجل ضن بها، ولم يبعها، ولم يهدها إلى أي منهم، ولما حضرته الوفاة دعى أبناءه، وقال لأكبرهم سنًا: أنت تعلم قيمة الفرس الفلانية لدي، ومكانتها عندي، والآن وقد حضرتني الوفاة فقد رأيت أن أقدمها هديَّة إلى أنذل من في العرب، ولي في ذلك حكمة لا تجادلني فيها، فإذا ما فرغت من دفني، وانتهى مجلس العزاء، فخذها وتجوَّل بها حتى تجد أنذل من في العرب؛ فاهدها له، وأخبره بأنَّها هدية من “غير جزيَّة”.

        فخرج الابن الأكبر ومعه فرس ابيه الثمينة يبحث عن أنذل من في العرب. ويالها من مهمة صعبة في مجتمع فيه كثير من القيم الطيبة، أمَّا في العهود التي ترخص القيم فيها فالأمر هين، والوصول إلى الأنذال لا يكلف كثيرًا، وأظن أنَّ الأجهزة التابعة لأعداء الأمَّة تعرف كيف تلتقط الأنذال من بين العربان.

المهم أنَّ الرجل وصل إلى قرية فوجد أهلها جميعًا مجتمعين على حفل أقاموه، سأل الناس عن ذلك الحفل، فقالوا: إنَّهم عرب، لا شيخ لديهم، ولكنهم يختارون في كل سنة رجلًا ينادون به شيخًا لهم إذا رضي بذلك، وتوافرت فيه بعض الشروط التي ترشحه لمنصب عال بين الأنذال. فسألهم وماذا عن حفلكم هذا؟ قالوا: قد انتهت ولاية الشيخ السابق الذي كان شيخ لنا في السنة المنصرمة والتي نهايتها هذا اليوم، ومن شروطنا على مشايخنا أنَّه بعد انتهاء ولاية الشيخ نحلق له كل شعر وجهه ولحيته وشواربه وحواجبه، ونطلي وجهه بأصباغ نختارها، ثم نركبه حمارًا بالمقلوب، ونأمره بأن يمسك بزيله، ونطوف به في القرية، ونلقي على وجهه البيض الفاسد، والطماطم الهالكة، والحيوانات النافقة وما إلى ذلك!.

قال ابن صاحب الفرس: وهل يقبل أحد أن يكون لكم شيخًا في العام القادم؟ قالوا: نعم، والشيخ المرشح هو ذلك الجالس على الفراش -فراش الشيخ- فنظر إليه فوجده وسيمًا، ذي مظهر لطيف، لو اخترت مرافقًا لرئيس أو ملك أو شيخ فقد لا تجد من يتفوق عليه في كماله الجسماني. فدنى منه ابن صاحب الفرس وسلم عليه وقال: هل صحيح أنَّك قد رضيت أن تكون شيخًا لهذه القرية لمدة عام وأنت تعلم ما سوف يصنعون بك في نهاية العام؟!، فقال الشيخ المرشح: ماذا في ذلك؟ استمتع بأبهة المشيخة وسلطتها لعام، وليكن بعد ذلك ما يكون. فقال له ابن صاحب الفرس: قد جاءتك الفرس الفلانية، هل تعرفها؟ فتعجب الرجل وقال: وهل هناك في العرب من يجهل قيمة هذه الفرس؟! قال: ولكن لن أقبلها إذا لم تذكر لي السبب الذي جعل أباك يهدها إليَّ دون غيري من العرب، فقال له: لأنَّك استوفيت كل شروط النذالة التى جعلها أبي شرطًا أساسيًّا لمن يملك هذه الفرس بعده، فأنت تعلم ما سيحدث لك بعد عام، وسلفك ماثل أمامك في هذا الموقف المهين، ومع ذلك فقد قبلت أن تكون شيخًا لقوم سيفعلون بك كل هذا بعد سنة واحدة فقط. فتضاحك النذل ببلاهه، وترك الرجل الفرس الأصيلة عنده وانصرف.

        والحكَّام الذين يرضون لأنفسهم التسلُّط والاستبداد والاستعلاء على شعوبهم، واضطهادها، وتحريض بعضهم على بعض؛ يزيدون في النذالة على صاحبنا، لقد رأوا القذافي وهو يجرجر ذليلًا يستجدي أولئك الذين قد سمَّاهم قبل أيام بالحشرات من أبناء شعبه يستجديهم العطف ويسألهم الرحمة، ولقد رأوا ابن علي هاربًا فارًا، ورأوا حسني مبارك في السجن، ورأوا قبل ذلك نوري السعيد الذي حكم العراق عقود طويلة، ولطالما أعجب العراقيُّون به وبسياساته، وأطلقوا عليه مختلف الألقاب، لكنَّهم في الرابع عشر من تموز 1958م حملوه على الهروب عبر النهر في فلوكة “بَلَمْ” صغير، ثم في اليوم التالي خرج ملفع بملابس النساء متخفيًا فعرفه بعضهم فقتلوه، وبعد قتله حملوا جثته ليراها قائد الانقلاب وصنيعته عبد الكريم قاسم، ثم أمر عبد الكريم بدفنه بعد أن أمن أنَّه لن يستطيع أحد أن ينقلب عليه ما دام نوري قد مات، وذهبت الجماهير في ذلك الوقت الحار فاستخرجت بقايا جثته المتفسخة من قبره ومسحت بها شوارع بغداد حتى أبانت العظام عن الجلود.

        بل والأسرة المالكة كالملك فيصل، الملك الشاب – يرحمه الله – حملته الجماهير قبل شهور معدودة بسيارته ومعه خطيبته، وهي تهتف له ولخطيبته، ثم قُتل وسُحل خالوه وأفراد أسرته، ولم يشفع لهم شيء، وعبد الكريم قاسم نفسه خرج في يوم 1/5/1959 في عيد العمال ووقف على منصة في وزارة الدفاع مر تحتها مليون وربع مليون من العراقيين، وكانت نفوس العراقيين آنذاك سبعة ملايين، ولم تمض غير سنوات ثلاث وإذا بتلك الجماهير ممثلة في جندي من جنود الجيش تضع حذاء ذلك العسكري الفرد على الرأس التي انحت لها قبل شهور. والقائمة تطول، فهناك الأمين الذي سحلته جماهير بغداد من الرصافة إلى الكرخ بقيادة مدير شرطة المأمون أخيه لأنَّها لم تجد ما يشفي غليلها بابن زبيدة إلا السحل!!.

 ألا ترون معي أنَّ هؤلاء الحكَّام المستبدين الذين يروون مصارع المستبدين ثم يكررون مثل ما صنعوا ويفعلون مثل ما فعلوا يكونون قد بلغوا من النذالة حثالتها؟.

 اللهم إنَّا نسألك بأن تولي علينا خيارنا، ولا تولي علينا شرارنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا، إنَّك على كل شيء قدير .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *