ولعلهم يرجعون
(1)
أ.د/ طه جابر العلواني
جلس مسلم من أهل القبلة وداعشي للحوار حول مسلك داعش، والداعشيين.
قال الداعشي للمسلم: تبدأ أم أبدأ أنا؟
قال المسلم: ابدأ، وعرفني بنفسك من أنت؟
قال الداعشي: أنا مسلم، آمنت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيًا ورسولًا.
قال المسلم: وماذا بعد؟
قال الداعشي: وآمنت بأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعى إلى الله على بصيرة، وبدأ دعوته في مكة، وبقي ثلاثة عشر سنة يجاهد ويتحمل شتى أنواع الاضطهاد والتعذيب هو وأصحابه، وكلما أراد المقاومة أو الانتقام لنفسه وللمعذبين من أصحابه يقول الله له (جل شأنه): ﴿.. كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ..﴾ (النساء:77)، فالدعوة في نظري كانت ضعيفة، والمسلمون كانوا ضعفاء تجاه قريش، فلكيلا يدخلوا معركة خاسرة أمروا بكف أيديهم، وانتظار اللحظة المناسبة، والاستعانة بالصبر والصلاة، ولما واتتهم الفرصة وأقاموا الدولة بعد بيعتي العقبة في المدينة المنورة؛ قرروا أن يأخذوا بالأوامر الجديدة، وأذن لهم أن يقاتلوا، بل أمروا بالقتال، وشدد الله عليهم في ذلك، وقال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة:191).
قال المسلم: كأنَّك ترى موقف سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه هو موقف انتهازي، فحين كانوا ضعفاء خضعوا، وحينما صاروا أقوياء انتقموا وفتكوا بخصومهم وأعدائهم، وهذا موقف خاطئ لا يقركم عليه دين ولا تراث وتاريخ.
قال الداعشي: إذن فبماذا تفسره أنت؟
قال المسلم: أفسره بأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء رحمة للعالمين، يحمل خطابًا عالميًّا، ودعوة كونيَّة، يسير على بصيرة من الله، وهدي توجيهه منه، فكف اليد لكي يعطي الناس فرصة لتفاهم ما يدعو إليه، والتفاعل معه، والالتزام به، والإقبال عليه، وليعلموا أنَّه (عليه الصلاة والسلام) لم يأت ليقيم ملكًا ولا مملكة، ولا ليحكم الناس ولا ليستبد بشئونهم، بل جاء بشيرًا ونذيرًا وهاديًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فأين هذا من فهمك الساذج المغرض لهذا الموقف؟.
فقال الداعشي: ذلك فهمي وهو فهم كثير من السلف.
قال المسلم: لو قرأت آيات القتال في كتاب الله بتسلسلها في النزول، وتدبرت فيها؛ لأدركت أنَّك مخطئ في ذلك الفهم، مجاوز للحقيقة، فآيات القتال لم تأت بهذا الشكل الساذج الذي تتحدث عنه، بل جاءت تنزيل العزيز الرحيم.
فإنَّ من أهم الآيات الكريمة التي تعرَّضت مؤخرًا إلى سهام الهجمات الغربيَّة الآية (29) من سورة التوبة، التي قال الله فيها: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة:29)، حيث زعم هؤلاء أنَّ المسلمين أعداء للإنسانيَّة كلها، وأنَّ ما قالوه من كونهم يحترمون أهل الكتب السماويَّة تُكذِّبه هذه الآية؛ لأنَّها نصَّت على الأمر بقتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وعلى ذلك فما يدَّعيه المسلمون في الغرب من أنَّ الإسلام واحد من الأديان الإبراهميَّة الثلاثة؛ اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام، وأنَّه في حالة إخاء معهم إنَّما هو محض افتراء ونفاق يكذِّبه القرآن نفسه، وهذا التصوُّر المريض قد أقاموه على اقتطاع هذه الآية من سياقها، وإخراجها من بيئتها، بمثل الطريقة التي ذكرناها حول اقتطاع من اقطتع «ويل للمصلين» من سياقها، وبنى عليها فكرة مريضة مماثلة.
نحن -في هذه الصفحات القليلة- سوف نبيِّن السياق الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة، والتي تجعلها مكمِّلة لما تَقَدَّمها من آيات نزلت في النَّاكثين لعهودهم، والنَّاقضين لمواثيقهم، والخارجين على قيم الأديان كلها؛ اليهوديَّة والنَّصرانيَّة وسواها، مما جعلهم حلفاء للمشركين، وأعوانًا لهم على دين التَّوحيد الذي جاء به الأنبياء كافَّة، فمثل هؤلاء يتسترون -بانتماء شكليّ صوري- إلى أهل الكتاب، وما هم من أهل الكتاب، فلم يؤمنوا في حياتهم كلها بكتاب موحى من الله إلى رسول من رسله أو نبي من أنبيائه، مثل هؤلاء ينبغي أن يُوضعوا -في التعامل في السلم والحرب- إلى جانب أوليائهم وحلفائهم ومَنْ فضَّلوه من أعداء التوحيد والإيمان على أهل التوحيد والإيمان، فهم ليسوا بإخوان للمؤمنين ولا بأوليائهم، وليسوا أولياء لله ولا أنصار لرسله ولا أولياء للمؤمنين، وحينما نقرأ هذه الآية الكريمة في سياقها الذي وردت فيه وننظر في المعاني التي جاءت لتقديمها سوف نكتشف مدى غباء أولئك الذين حرَّفوا كتب الله وكلماته عن مواضعها وأبعدوها عن معانيها والمراد بها، وحمَّلوها ما شاء الشيطان وشاءوا من معان أخرى مخالفة مغايرة.
عن نفي وقوع النَّسْخ في القرآن المجيد:
إنَّ القول بعدم وجود نسخ في القرآن تترتب عليه قضايا كثيرة، بعضها يندرج تحت علم الأصول، وبعضها يندرج في العلوم الفقهيَّة، إضافة إلى علوم القرآن. كما إنَّ الأخذ بقاعدة هيمنة القرآن على كل ما عداه، وضرورة تصديقه عليه، وعدم دخول النَّسْخ على آيات حريَّة التدين سوف يؤدي إلى بطلان نسبة سائر الأخبار والآثار التي وردت في دعوة المسلمين إلى مقاتلة غيرهم حتى يدخلوا في الإسلام، وعلى ذلك، وانطلاقًا من تفسير القرآن بالقرآن فلا بد من إبطال سائر الأخبار والآثار التي نُسبت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلى كبار أصحابه، ومنها قوله: “أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله…”، وأمثال ذلك مما لا يصلح أن يكون ناسخًا أو معارضًا لآيات الكتاب الكريم خاصَّة: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة:256)، وقوله: ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:99)، وقوله: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود:28)، وقوله: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)، وقوله: ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ﴾ (ق:45)، إلى ما يقرب من مئتي آية كلها أكَّدت على حريَّة الإنسان في اختيار دينه وما يتديَّن به ويتعبَّد الله به. ولكي نتبين مدى أهمية تفسير القرآن بالقرآن -للتخلص من سائر التناقضات التي تظهر عندما نذهب مع المفسرين وأضرابهم إلى ما يذهبون إليه- نتدبر هذه الآيات الكريمات:
﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ*فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ*وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ*فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ*كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتقِينَ*كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ*اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ*فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ*أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾ (التوبة:1-13).
نجد حين تدبُّرها أنَّ القتال الذي يقع بين المسلمين وغيرهم لم تكن علَّته حمل الآخرين على قبول الإسلام والإيمان به، بل حمل الآخرين على احترام المعاهدات والاتفاقات الدوليَّة، وعدم نقض العهود والمواثيق؛ لأنَّ السلام لا يمكن تحقيقه دون أن تأمن الشعوب ويثق بعضها ببعض، وتقوم بينها علاقات تعاون وتعارف، لا تسمح بأن يغدر شعب بآخر أو يهدده في نفسه أو أرضه أو كيانه أو مصالحه، وهذه الآيات حينما نتدبَّرها في سياقها نجدها قد وجهت واجب البراءة -براءة الله ورسوله- من الالتزام بمعاهدات أُبرمت مع قوم لا يحترمون أيّ معاهدة أو اتفاق، فهم ينكثون أيمانهم وينقضون عهودهم ويظاهرون على المؤمنين أعداءهم، فتصبح الاتفاقات كأنَّها اتفاق من جانب واحد هو الجانب المسلم. وأمَّا الجانب الآخر فإنَّه يتخذ من تلك الاتفاقيات والمعاهدات وسائل لتخدير المؤمنين واغتنام أيَّة فرصة لمهاجمتهم وهم غافلون.
إنَّ الذين يتصوَّرون أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين قد اتخذوا هذا الموقف بعد أن قويت شوكتهم وأصبحوا القوَّة العظمى في الجزيرة العربيّة -كلها- القادرة على فرض إرادتها على خصومها وأعدائها، هذه الآيات عند تدبرها تنفي كل هذه التصورات، فقوله تعالى: ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة:1)؛ أي: عاهدتموهم ثم نكثوا أيمانهم مرة بعد أخرى، ونقضوا عهودهم في كل مرة، وكلَّما وجدوا فرصة للنيل من المسلمين ناصروا وظاهروا أعداء المسلمين، وتخصيص هذه البراءة وحصرها في هذا النوع من الناكثين لعهودهم دلَّ عليه الاستثناء الذي جاء في السياق بقوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:4[1]). وحتى أولئك -الذين تكرر منهم نقض العهود- لم يُؤمر المسلمون بمفاجأتهم بنقض العهود وإنهائها والشروع الفوري في مقاتلتهم، بل أُعطوا مهلة كافية جدًّا ليُراجعوا أنفسهم ويدركوا أخطاءهم في تكرار نقضهم لمعاهداتهم ومواثيقهم مع المسلمين، فقال تعالى: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ (التوبة:2)، ففي هذه الآية دليل واضح على مدى حرص القرآن والإسلام على السلام، وعدم مبادرة أحد بالحرب، وفي قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ﴾ (التوبة:3) فرض على المسلمين أن يعلنوا آجال إنهاء تلك المعاهدات بأهم وسائل الإعلان المتاحة في ذلك العصر؛ لئلا تكون هناك مباغتة، فليس الهدف -كما- قلنا الإكراه على الدين، ولا الانتصار في الحروب، ولا إبادة الآخرين، بل حملهم على احترام المعاهدات والمواثيق الدوليَّة، والتوبة عن نقض أيَّة مواثيق؛ كي تستطيع البشريَّة أن تحقِّق أمنًا وسلامًا عالميين قائمين على احترام المواثيق والعهود وعدم التفريط بشيء منها؛ ولذلك جاء الاستثناء بقوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة:4) كما تقدم، فإذا انسلخ الأشهر الحرم دون أن يراجع أولئك -الناكثون للعهود- أنفسهم ويلتزموا بالوفاء بمواثيقهم، يجب مقاتلة قوَّات هؤلاء أينما وجدوا، وأخذهم بجرائم نقض العهود ومحاصرتهم في كل موقع، فهؤلاء يمثلون -والحالة هذه- إرهابًا أمميًّا عامًّا شاملاً، يجعل العالم كله يعيش حالة من أزمة الثقة وعدم الاطمئنان إلى أيَّة وسيلة سلميَّة، ومثل هؤلاء لا يُؤْمَن أذاهم ولا يُدفع ضررهم إلا إذا تابوا وأنابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وتحلَّوا بالتزكية التي تتحول إلى قاعدة أخلاقيَّة تحول بينهم وبين نقض العهود والمواثيق. وتُشير الآية التالية: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة:6) إلى مستوى الأفراد الذين قد يرفضون سلوكيَّات أممهم وشعوبهم وحكوماتهم، فيحاولون أن يعرفوا حقيقة ما يدعوا المسلمون إليه ويطَّلعوا على رسالتهم، فهؤلاء تصبح الأمَّة المسلمة كلها مسؤولة عن حماية حقهم الذي يصبح من أهم حقوق الإنسان في معرفة الحقيقة والاطلاع عليها وحماية مَنْ يطلبها من أيَّة تهديدات قد لا تسمح له بالاطلاع عليها. في الوقت نفسه يأتي الاستفهام في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:7) باستبعاد أن يحترم المشركون -الذين نقضوا عهودهم أكثر من مرة- أيّ عهد يبرمونه، فهم كاذبون يتظاهرون بذلك لإرضاء المؤمنين حتى تحين لهم فرصة للهجوم عليهم أو الانضمام إلى أعدائهم، يقولون بأفواههم ما يرضون به المؤمنين، وتأبى قلوبهم، ومن بين هؤلاء قوم لم يعلنوا نقض أو نكث عهودهم مع المؤمنين، بحيث لا يمكن تصنيفهم في الناكثين الذين جاهروا بذلك ولا بالملتزمين الموفين بمعاهداتهم، وفي الوقت نفسه تُنبِّه الآية التالية المؤمنين إلى أنَّ هؤلاء الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم لو انتصروا عليكم أو تفوَّقوا بالقوة عليكم فإنَّهم لن يدَّخروا أي وسع لإيذائكم ومحاربتكم، فلا تنخدعوا بمعسول الكلام الذي يقولونه بأفواههم فقط؛ لأنَّهم فاسقون، ولأنَّهم اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً؛ ولذلك فإنَّ الثقة بهم لا ينبغي أن تحدث إلا إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وآثروا أُخُوَّتكم على عداوتكم، وفضَّلوا أن يكونوا منكم بشكل كامل، بحيث ينتمون إلى أمَّتكم وينضمُّون إلى صفوفكم، فهؤلاء لا ينبغي أن يُآخذوا على ما قد سلف منهم من نقض للعهود وأذى أصابكم نتيجة لذلك؛ لأنَّهم -والحالة هذه- قد صاروا إخوانًا لكم في الدين، أمَّا إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فذلك يعني أنَّهم قد اختاروا حربكم وعدم مسالمتكم وعدم الاعتراف لكم بحريَّة التدين ولا بحرية الدعوة إلى الدين: ﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ (التوبة:12)، لا لكفرهم ولكن لأنَّهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون، ثم تؤكد الآية التالية ذلك بالاستفهام: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾ (التوبة:13). وحين نتدبَّر هذه الآيات على التفصيل نستطيع أن نقول: إنَّ البراءة المذكورة في أول السورة ليست بسبب الشرك، وإنَّما هي بسبب نقض العهد والنكث في المعاهدات وبشكل متكرر، بدليل أنَّ الله (تبارك وتعالى) قد استثنى من تلك البراءة: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:4)، وللآيات الكثيرة الواردة في حرية التديُّن وعدم الإكراه على الدين، وعلى ذلك فيمكننا أن نحرر الموضوع بالشكل التالي:
- من المشركين مَنْ بلغتهم الدعوة ومنهم مَنْ لم تبلغهم.
- مَنْ لم تبلغهم الدعوة فريقان: فريق منهم اعتدوا، وفريق لم يعتدوا.
- والذين بلغتهم الدعوة فريقان؛ منهم مَنْ عاهدوا المسلمين وأنشأوا معهم مواثيق، ومنهم مَنْ لم يُعاهدوا.
- والذين بلغتهم الدعوة وعاهدوا؛ منهم مَنْ أوفوا بعهودهم والتزموا بها، ومنهم مَنْ نقضوها.
- الذين نقضوا عهودهم؛ منهم مَنْ نقضوها مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومنهم مَنْ نقضوها مع المؤمنين بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فصار لدينا عدَّة أنواع:
أولاً: مشركون لم يُعاهدوا ولم يعتدوا.
ثانيًا: مشركون عاهدوا فوفّوا.
ثالثًا: مشركون لم يعاهدوا واعتدوا.
رابعًا: مشركون عاهدوا ثم نقضوا عهدهم مع النَّبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
خامسًا: مشركون عاهدوا فلم ينقضوا ولم يُوفوا، وكانوا يحاولون أن يُرضوا المؤمنين بأفواههم وتأبى قلوبهم.
سادسًا: مشركون عاهدوا ثم نقضوا عهدهم مع المؤمنين بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
أمَّا أولاً: وهم مَنْ لم يعاهدوا ولم يعتدوا ففيهم جاءت سائر الآيات التي ضمنت حريَّة الاعتقاد، وحريَّة التدين، مثل قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة:256)، ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:99)، ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ﴾ (ق:45)، ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)، ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف:29)، ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة:190).
وفي ثانيًا: وأمَّا مَن عاهدوا فوفّوا ففيهم ما في مَنْ لم يعاهدوا ولم يعتدوا، وفيهم أيضًا قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:4)، وقوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:7)، ولم يكن في حياة النَّبي من هؤلاء إلا الذين عاهدهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند المسجد الحرام، بدليل اختصاصهم بالاستثناء من كل الأوصاف البشعة في الناقضين من المشركين المعاهدين في قوله تعالى: ﴿إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ*اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ (التوبة:7-10)، فسائر المشركين الذين عاهدوا النّبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانوا بين ناقضين عهدهم معلنين نقضهم، وبين مستخفين متظاهرين بإرضاء المؤمنين، وتأبى قلوبهم.
وفي ثالثًا: وأمَّا مَنْ لم يعاهدوا واعتدوا، ففيهم قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ*وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ*فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[2]*وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة:190-193).
وقد كان أول الأمر أمرًا بالصفح والعفو والصبر على الأذى، ثم كان الإذن في الدفاع حتى يكفّ المعتدون عن محض العدوان في قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج:39)، ثم كانت براءة والأمر فيها بقتل مَنْ نقضوا عهدهم مع النَّبي عقوبة على نقضهم، وبعدم العفو عنهم، حتى وإن تظاهروا بالكف عن العدوان، إلا إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة كما يلي.
وفي رابعًا: وأمَّا مَنْ عاهدوا ثم نقضوا عهدهم مع النَّبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد كان فيهم قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة:5).
وفي خامسًا: وأمَّا مَنْ لم ينقضوا ولم يوفوا، يرضون المؤمنين بأفواههم وتأبى قلوبهم، ففيهم قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ*اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ*وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ*وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾؛ أي: لا لتعتدوا به عليهم، وإنَّما: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.
وفي سادسًا: وأمَّا مَنْ عاهدوا ثم نقضوا عهدهم بعد النَّبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ أي بعد التخفيف، ففيهم قوله تعالى: ﴿وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾؛ أي: وإن لم يتوبوا ولم ينكثوا فعلى ما أنتم عليه؛ أي: ﴿أَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾.
أرأيت، لقد أسأتم آيات القتال، وأخطأتم في فهمكم لمعنى الجهاد، وبعدتم عن كتاب الله (جل وعلا)، وهجرتموه، وأخذتم بأقوال هذا وذاك، لا بما جاء في كتاب الله (سبحانه وتعالى)، وسنَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، التي لم تخرج عن كتاب الله قيد أنملة. فأنتم على جهل مركب؛ لأنَّكم تجهلون وتعتقدون بأنَّكم علماء، وتستبيحون دماء المسلمين وغيرهم على حد سواء بشبهات ألقى الشيطان بها في قلوبكم وعقولكم. فأين ما أنتم فيه من الإسلام، ومن الدين الحق، ومن كتاب الله؟ فراجعوا أنفسكم، وعودوا إلى رشدكم، فقد أهلكتم الحرث والنسل، وسفكتم الدم الحرام في الأشهر الحرم، واستحللتم من الناس ما حرمه الله (تعالى)، وقادتكم ما هم إلا جُهَّال، تعلقوا بشبهات أوحاها الشيطان، أو شياطين الإنس والجن إليكم، فتنكبتم السبيل السوي والصراط المستقيم.
[1] قال أبو جعفر الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته، فأمَّا الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله (جلّ ثناؤه) أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: ﴿إلا الذين عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ ثُمّ لَمْ يُنْقُصُوكُمْ شِيْئا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا فَأتمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ إنّ الله يُحِبّ المُتّقِينَ﴾. وبعد: ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه حين بعث عليّا -رضي الله عنه- ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم، ومن كان بينه وبين رسول الل(ه صلى الله عليه وآله وسلم) عهد، فعهده إلى مدته أوضح الدليل على صحة ما قلنا وذلك أنَّ الله لم يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله سلم) بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهده بترك نقضه.
( [2] ) الرحمة قد تكون للكافر لكن في الدنيا فقط بركة في صحته وماله وأهله أو تهيئة ظروف كريمة قبل أن يهتدي تسهل عليه سبيل الهداية قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ ( الأنبياء107) وقال تعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ ( الأنعام154) وقال: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ( المؤمنون 75 ) وقال: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ ( يونس 21 ) وقال: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ ( الروم33 ) وقال: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ (فصلت50 ).