د. طه جابر العلواني
منذ الفتنة الكبرى والإنسان المسلم يعاني من أزمة يمكن أن نسميها بأنَّها أزمة فقدان التوازن النفسي والتوازن الاجتماعيّ، ولعلنا نستطيع أن نفسر كثيرًا من الأحداث التي مرت في تاريخنا بهذا المدخل؛ ذلك لأنَّنا عند التدقيق نستطيع القول بأنَّ كثيرًا من تلك الأحداث التاريخيّة المؤلمة التي واجهوها وكذلك الفتن التي مرت الأمّة بها مَا كان يمكن أن تحدث أو تتفاقم لو أنَّ أبناء الأمّة قد قابلت ذلك بنفسيّة متوازنة فرديًّا واجتماعيًّا، إذ إنَّ من يفقد التوازن النفسي الفرديّ والاجتماعيّ لن يستطيع أن يواجه تغيرات الحياة والنظم والعلاقات، وظهور فئات اجتماعيّة جديدة وتراجع فئات إلا بطرق قاصرة، قد تزيد أحيانًا من تفاقم المشكلات؛ فيتسع فيها مَا كان يمكن أن يكون ضيقًا وينتشر فيها مَا كان يمكن أن يكون منحصرًا.
وإلى ذلك يمكن أن تعزّى فتن كثيرة حدثت عبر تاريخنا، ومن تلك الفتن بعد الفتنة الكبرى فتن متلاحقة في مختلف الأقاليم الإسلاميّة بعضها في الحروب الصليبيّة وساعد عليها، وبعضها هيأ لحروب التتار وسقوط بغداد وانهيار الدولة العباسيَّة، وحين ورثت الدولة العثمانيَّة تلك التركة وعملت على جمع الشتات لم توفق في التخفيف من الناحية الاجتماعيَّة حدة التناحرات الموجودة في المجتمعات، ولم تنجح في تجفيف مصادر الصراعات، بل ربما ساعدت على تضخيم بعضها نتيجة فقدانها لمشروع حضاريّ نهضويّ متكامل يعيد التوازن إلى النفسيَّة الإسلاميَّة أفرادًا ومجتمعات.
حتى إذا بدأ التغلغل الغربيّ في القرن الثامن عشر، وتزايد في القرنين التاسع عشر والعشرين تصاعدت حدة الصراع الاجتماعيّ، ولم يفلح التحدي الخارجيّ في إعادة بناء وحدة الأمَّة والتخفيف من حدة التناقضات الاجتماعيّة في كياناتها المختلفة، بل ساعد على تجديدها وتقويتها.
ولذلك حدثت قناعات لدى تلك النفسيَّة اللامتوازنة بأنَّ إعادتها للتوازن لن يحدث إلا بمعارك داخليَّة لابد من حسمها لتكون الأمَّة قادرة على الانتصار والحسم في معاركها الخارجيَّة. وهناك ظاهرة قائمة في تاريخنا في هذا الصدد قد تبرز في مثالين: مثال مصر الفاطميَّة التي أقتنع صلاح الدين ومن معه بأنَّه لن تتحرر القدس إلا بحسمها، فكانت تلك المدارس التي انتشرت في مختلف الأرجاء لتحدث التجديد الفكريّ المطلوب قبل خوض المعركة ضد الصليبيين، وقد قاد ذلك إلى فكرة التغيير المذهبيّ، وإخراج مصر من فاطميّتها، وإدخالها للمذهب الشافعيّ والعقيدة الأشعريَّة، وقد كان لصلاح الدين مَا أراد وأراد مفكّروا عصره، وأنهيت الدولة الفاطميَّة وساد المذهب السني بدلًا من مذهبها، وتحول الأزهر إلى قاعدة تعليميَّة للمذهب الشافعيّ والمذاهب السنيّة الثلاثة التي لا تنناقض معها.
ومثل ذلك مَا حدث في إيران حين انتصر الصفويّون على الغزناويين فقرروا تحويلها من المذهب الحنفيّ الَّذِي كان الغزناويون يتبنونه إلى المذهب الصفويّ، الَّذِي اعتبر نفسه التعبير الصحيح عن المذهب الشيعيّ. في كل تلك الأحوال والتقلبات كانت ترتفع فئات وتنخفض فئات أخرى، وتبرز طوائف وتختفي طوائف أخرى في ظل تلك التغيرات.
وما يمكن استحضاره هنا أنَّه رغم الغزو الصليبيّ والتتاريّ، ورغم سائر التناقضات التي كانت قائمة، كانت المرجعيَّة الكبرى والأساسيَّة لهذه الأمَّة مرجعيَّة داخليَّة، هِيَ: مرجعيَّة الإسلام بمذاهبه وطوائفه المتعددة. ومفاهيم الإسلام وإن اختلفت معانيها لدى هذه الفئة أو تلك كانت مَا تزال هِيَ المنتشرة والسائدة. لكن الحال قد تغيَّر تمامًا بعد التغلغل الغربيّ والهجمة الإمبريالية الغربيّة على العالم الإسلاميّ، فلقد بدأ الفشل واضحًا في مختلف جوانب حياة الأمَّة، وأنَّ من الصعب إن لم يكن من المتعذر أن يعاد بناء هذه الأمَّة بشكل سليم إذا لم تصحح جوانب كثيرة في شخصيّتها القلقة، وعقليَّتها الممزقة، ونفسيَّتها اللامتوازنة.
وفي إطار الرغبة في ذلك والدعوة إليه بدأ بعض الكُتَّاب والمفكّرين يبحثون في الأسباب التي أدت إلى تلك المظاهر المذكورة، لكنَّهم وهم يبحثون في ذلك كانت أنظارهم تتجه دائمًا إلى أقرب الأزمات إلى عصرهم وواقعهم، فما كانت أعينهم تمتد إلى الجذور، وما كانت مناهجهم بقادرة على أن تُكَوِّن نوع من الحفريَّات المعرفيَّة في جذور وأعماق وتاريخ وتطور تلك الأزمات، إذ إنَّ تلك الأزمات كانت من الشدة والقوة والسرعة بحيث يأتي الآخر من الأول، فلا يستطيع العقل المسلم تتبع تلك الجذور والوصول إلى نهاياتها.
ومن هنا فقد عزى كثير من الكُتَّاب والمفكّرين سائر مظاهر الأزمات التي تحيط بالأمَّة اليوم إلى ضخامة واتساع الهجمة الإمبرياليَّة التي تعرَّض المسلمون لها، سواء في المرحلة التي مثلت إنجلترا وفرنسا قيادة القوة الإمبرياليَّة الصليبيّة باعتبارها قيادة تلك الإمبرياليَّة. ولا شك أنَّ مثل هذا الاتجاه يجعل أنظار الأمَّة تتجه إلى العدو الخارجيّ على اعتبار أنَّه المسئول الأول والأخير عن أزماتها.
وبذلك يمكن أن نهيئ هذا الطرح إلى تعميق نزعة الاعتداد بالذات، والتهيئة لبلورة نزعات قوميَّة، وتغطية التناقضات الحقيقيَّة، والأزمات الاجتماعيَّة، ومنع الجماهير الشعبيَّة من التطلع أو المطالبة بتحسين ظروفها السياسيَّة والماديَّة، وتعطى تلك القيادة لنفسها فرصة لمنح نفسها شرعيَّة لا تستحقها، وتدفع الجماهير إلى الاستسلام التام لها والالتفاف حولها شاءت أم أبت؛ لأنَّه عند حدوث عكس ذلك يعني: إعطاء فرصة لأجنبيّ من الانتصار عليها. كما أنَّ هذا الاتجاه يعطى لتلك القيادات ناقصة التأهيل وفاقدة الشرعيَّة قدرة على قلب المفاهيم وتغييرها لصالحها، أعنى مفاهيم النصر والهزيمة، والتلاعب بها، بل إعطاء الأحداث أهدافًا لا علاقة لها بها كي يصبح النصر لا يعني: انتصار جيش على آخر، أو نظام على نظام، أو قيادة على قيادة، بل يعني: بقاء النظام واستقراره وبقاءه أمام تلك الهجمة، بل إنَّ المعركة تستهدف النظام، وبما أنَّ العدو لم يتمكن من إسقاط النظام فقد فشل في تحقيق أهدافه وأثبتت القيادة بُعد نظرها وقدرتها على الانتصار على أعدائها.
ويُنسى -آنذاك- تقصير تلك النظم، بل وتآمرها على الأمَّة لتكريس عمليَّات فقدان التوازن الفرديّ والاجتماعيّ، وملء المجتمع بالأفكار المميتة والهدامة، وتعميق النزاعات بين مقوماته، وفرض قيم تجلب معها مزيد من التناقضات، وتهدم مَا قد يكون بقى من قواعد المودة الاجتماعيَّة والحريَّة.
أمَّا الكُتَّاب الآخرون فقد نسبوا الفشل والتراجع إلى أبناء الأمَّة أنفسهم، وجعلوا من تخلف الأمَّة الفكريّ والجمود الفكريّ وعدم استجابتها لخطاب الحداثة والتقدم السبب الهام الرئيسي للفشل والتراجع، وهذه تكاد تكون ترجمة حرفيَّة لخطاب الاستشراق القديم، الَّذِي يرجع إلى الهجمات الإمبرياليَّة والصليبيَّة التي نسبوها إلى التراث الإسلاميّ وإلى الإسلام ومصادره، وإلى دين هذه الأمَّة التي تدين شعوبها به.
وعلى ذلك إنَّ الذنب في هذه الحالة ينسب إلى الأمَّة، ويصبح دور المفكِّر المعاصر العمل على تحطيم معتقدات الأمَّة وأفكارها، والاستعلاء على فصائل الأمَّة، وحرمانها من أيّ تعاطف معها، والحيلولة بينها وبين أي معارضة داخل المجتمع، ودفع المجتمع العصريّ دفعًا إلى محاربة العمل بها، بل وأيضًا والعمل على هدم مكوناته، ويصبح الاستبداد في هذه الحالة سائغًا مقبولًا يؤيده خطاب الحداثة، ويدعمه خطاب التقدم، ويتحول إلى مسمار في كرسي المستبد، ويقدم له كل مَا يعينه على تكريس الاستبداد وتدعيمه.
وهذا يفسر لنا كيف استطاع المستبدون أن يستقطبوا أعدادًا هائلة من المفكّرين المعاصرين المسمون بالنخبة، وما يكتبونه ويكون معيقًا لحياة الأمَّة؛ ولذلك رأينا كيف تحول كبار المثقفين إلى أزلام تدور في أفلاك حول المستبدين، وتحوَّل المثقف المعاصر الَّذِي كان يتوقع منه وقد عرف القواعد التي تقوم عليها المعاصرة أن يعمل على تغيير شروط الحياة، وإعادة التوازن إلى نفسيَّة الفرد وشخصيَّة الجماعة.
إنَّ المسئول عن إخفاق أمَّتنا وشعوبنا ليس المحافظة الفكريَّة، ولا تدين الجماهير الشعبيَّة، ولا اعترافهم بالأيديولوجيَّات المستوردة، أو وجود فئات متدينة، بل هُوَ ذلك الجبن والتفكك النفسي والعقليّ، واستبدال عقائد الناس التي لم تستطع أن تنجح في بلدانها، وما صدرت إلينا إلا باعتبارها أغذية فاسدة، أصابها الفساد، وكان يجب التخلص منها بتصديرها إلى خارج بيئاتهم.
فالإخفاقات المستمرة منذ بدء احتلال الغرب لنا هِيَ إخفاقات أيدلوجية اجتماعيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة لنظم حاول أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم أنَّهم نخبة أن يعيدوا بناء شعوبنا بمقتضاها، وقد حاولوا أن يعتمدوا ذلك باعتباره قاعدة صالحة للانتصار على عدو خارجيّ وتحرير الأمر منه، غافلين أو متغافلين عن أنَّ ذلك يتحوَّل بالضرورة إلى نوع من الصراع الداخليّ، الَّذِي يقود إلى حرب أهليَّة في نهاية المطاف، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر والبلاد العربيَّة خاصَّة تزرع فيها وتستنبت شروط الحروب الأهليّة المعلنة والخفية، فهناك صراع بين مَا يسمى بالتقدم والتخلف، والأصالة والمعاصرة، والرجعيَّة والتقدميَّة، والإسلاميَّة والقوميَّة، والليبراليَّة والمحافظة، إلى غير تلك الثنائيَّات المتصارعة، حتى ظهرت نوعيات من الثنائيَّات لم تحظ باهتمام كاف مثل: القرية والمدينة، والعشوائيَّات والمدن، والعسكر والمدنيّين، والمحافظين والليبراليّين، وكل هذه الثنائيَّات فهي دليل واضح على ضعف وهشاشة المنظومة الفكريَّة والتوازن النفسي. وإذا لم يفهم العرب خصائص وطبيعة وضعهم الراهن ومساعدة أنفسهم على تجفيف منابع الفكر التجريديّ والنخبوي بأشكاله الكثيرة، ونقد جميع الممارسات التي قامت في المحيط العربيّ والإسلاميّ؛ فإنَّ كوارث لا يعلم مداها إلا الله تنتظر التفجر في معظم بلداننا العربيَّة.