Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

التدبر وسيلتُنا لفهم القرآن الكريم ح3

 (الحلقة الثالثة)

أ.د/ طه جابر العلواني

من عوائق التدبر السليم:

هناك عوائق تعتبر عمليّة إزالتها شرطًا مسبقًا للوصول إلى التدبر السليم.

فلنقم أولًا بالتخلُّص من عوائق التدبُّر والعمل على أن يجعل الله (عزّ وجلّ) بيننا وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا، فبدلًا من أن تكون الحُجب بيننا وبين القرآن، تنتقل هذه الحُجب لتكون بيننا وبين أعداء القرآن والكافرين به.

ولنبدأ “بأكنَّة القلوب” نزيلها ونبعدها عن قلوبنا لتصفو وتسلم، فيأتي إليها القرآن ليجدها مرايا صافية نقية قادرة على الانفتاح لآيات الكتاب الكريم، فتتلقى القرآن القلوب المتدبرة وهي سليمة صافيّة نقيّة، قادرة على اقتباس أنوار القرآن واستقبال تجلياتها. والأكنَّة من “كنَّ” إذا حفظ شيئًا “يكنّ” أيّ: غطاء، قال الله (تبارك وتعالى)﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا..﴾ (الأنعام:25)، فهذه الأغطية والأكنان تستر القلوب عن الفهم وتحول بينها وبين فقه القرآن، ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ (فصلت: 5)، فقلوب المؤمنين منشرحة مفتوحة لا غطاء ولا حاجز يحول بينها وبين التدبُّر، وإذا تدبَّر الإنسان وهو مؤمن من أولئك الذين شرح الله صدورهم لآياته.

 فإنَّ القرآن ومعانيه ينزل على القلب ويدخل إليه، وكان القلب بعد ذلك يكنّه فيه ويحفظه؛ ولذلك اعتبرت قلوب المؤمنين أكنانًا للقرآن تحفظه وتنفعل به وتستضيء وتستنير بآياته، والأكنَّة الحاجزة التي تحول بين القرآن وبين الدخول إلى القلب ومنحه حالة الانشراح تأتي من الذنوب المختلفة، التي تتحول إلى رَيْنٍ وصدأٍ يعلو تلك القلوب، قال الله (تبارك وتعالى)﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين:14)، وذلك يعنى أنَّ تلك القلوب قد صدأت وأصابها الرّين وعلّتها الأغلفة والأغشيّة، فلابدّ من تطهيرها وإعادتها إلى حالة السلامة، فهي كمرآة غمرها التراب أو أزالت قابليتها لعكس الصور أمور قد حدثت لها، فلم تعد قادرة على عكس شيء، فلابدّ من استبدالها أو إعادة طلائها لتعود إلى طبيعتها.

وهنا لابدّ أن يتأمَّل المتدبِّر في قلبه مسترجعًا سلوكه وأفكاره وتصوراته؛ ليتأكَّد من أنَّه خالٍ وسالم من جميع الأفكار والتصورات والذنوب والسيِّئات التي تحدث الرّين وتجعل القلوب في أكنَّة، وعلينا أن ندرك الفرق بين أن تكون قلوبنا أكنَّة للقرآن وبين أن تكون الأكنَّة حول القلوب وعليها، بحيث تحول بيننا وبين فهم القرآن وفقهه.

وقد يكون في الآذان “وقر”، و”الوقر” داء خطير يصيب الآذان فيثقل سمعها، ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ (فصلت:5)، وقال الله (تبارك وتعالى) ﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ (فصلت:44)، فكأنَّ السمع وُقِر وأثقل بحمل  كما يحمل الحمار الوقر أيّ الحمل الثقيل، وهذا المرض أو الحمل الثقيل الذى يجعل السمع ثقيلًا بتلك الأسماع العليلة التي ملأها الوقر  بحيث لا تلج كلمات الله إليه، وبالتالي فلا تستطيع الوصول إلى ذلك القلب الذى غطته الأكنان، ولا  الأسماع التي ملأها الوقر الانفعال بالقرآن، فلابدّ من إزالة هذه المعوّقات والتخلّص منها بالتوبة النّصوح والطهارة التامّة؛ فذلك هو الذي يجعل التدبُّر فاعلًا ومؤثرًا. وذلك الذي يجعل التدبر ممكنا وفاعلا ومؤثرًا.

 وهناك موانع أخرى قد تمنع العين وتصيبها بمرض “العشو” بالنسبة للقارئين وتتحوّل إلى ما يشبه العمى. والعشو ضعف البصر عن الاتصال بأنوار آيات القرآن وكلماته، قال الله (تبارك وتعالى) ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (الزخرف:36)، فإذا كثر نظر الإنسان إلى المحرَّمات وإلى الشواغل ومدّ عينيه إلى ما متّع الله الناس به من زينة الحياة الدنيا وما إلى ذلك فإنَّ الأعين قد تعشو؛ ولذلك فإنَّ الله (عز وجلّ) قد أعدَّ بنفسه رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)   ونبَّه إلى أنَّه سيلقي عليه قولًا ثقيلًا وأمره بالاستعانة بالصبر والصلاة والتهجُّد والقيام والإخبات لله (عز وجلّ) وترتيل القرآن ترتيلًا، فذلك كله لابد منه لتطهير قوى الوعي وإعدادها، لتلقي الخطاب الكريم، والانفعال به والتفاعل معه، والحصول على ثمار التدبر بإذن الله.

إنَّ من شأن تدبر القرآن وتفسير القرآن بالقرآن وتلاوة القرآن حق التلاوة، وحسن ترتيله وإقامة الصلاة به، تحقق كل تلك النتائج المبتغاة التي تجعل القرآن شفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة وموعظة ونورًا وبصائر، لا تشحذ أسماع المتدبرين فحسب بل تمنحها قدرة التمييز، قال الله (تبارك وتعالى) ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:18)، وعند ذلك لا يمكن للشيطان أن يقيم حُجبًا بين حكم القرآن وأنواره وبين قوى الوعي الإنساني؛ لذلك فإنَّ التدبر ضرورة لبناء العقل وإنماء قوى الوعي قرآنيًا، فهو الذي يهيئ الإنسان وقواه العاقلة لتلك المهام العظيمة التي تنتظر الإنسان في هذه الحياة مهام تحقيق التوحيد والتدثر بالتزكيّة، والتحلي بالعمران، وإقامة بناء الأمَّة، وحسن القيام بالدعوة، وبدون ذلك تكون القراءة هذرمة، ويكون الاستماع قليل الأثر.

نرجو الله أن يوفقنا لحسن تدبر كتابه، ليكون القرآن ربيع قلوبنا، وجلاء همومنا وأحزاننا، ونور بصائرنا وأبصارنا، إنَّه سميع مجيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *