أ.د/ طه جابر العلواني
حين قرر جورج بوش الأب احتلال العراق؛ طلب من مستشاريه إعداد خطتين، إحداهما: تعيد العراق إلى العصر الحجري، وتقضي على كل شيء اسمه عراق، أو له صلة به. وخطة أخرى: تعيد العراق إلى القرن التاسع عشر، حيث القبليَّة والبداوة والتخلُّف والجوع والمرض، وسيطرة الولاة الأتراك، وظلم العبيد منهم، وأشغال السخرة، والتفريق المذهبي والطائفي، وتسمية أتباع المذهب الشيعي ب(بيشنجي مذهب) أي المذهب الخامس، وهؤلاء لم يكونوا يتمتعون بحق التوظف في الدولة، إلا بشروط واستثناءات.
وكانت مقبرة النجف في القرن التاسع عشر تؤجر ب(اللازمة) إلى أسرة يهوديَّة معروفة في النجف، تتقاضى رسومًا باهظة، على دفن جثث الشيعة فيها، وكان الإيرانيون إذا أرادوا دفن موتاهم في هذة المقبرة يسافرون لياليا وأيامًا؛ ليصلوا إلى مقبرة النجف؛ ليدفنوا ما تبقى من جثث تكون قد اهترأت وتعفنت، ومع ذلك فقد كانت رقابة أولئك الأتراك إذا عثرت على جثة حفرت لها ودفنتها حيث اكتشفتها، فكان بعض الإيرانيين يعمدون إلى تقطيع جثث موتاهم ووضعها في أكياس من الملح، تحول بينها وبين التعفن والتعطن السريع، حتى يصلوا بها إلى مقبرة النجف.
ذلك هو الحال الذي أراد بوش الأب أن يصل بالعراق إليه حين أرسل إليها عاصفة الصحراء، ومعه وفي ركابه قوات رمزيَّة لثلاثين جيشًا من الجيوش العربيَّة والإسلاميَّة التي دخلت العراق آنذاك، وبدأ الجسم العراقي كله يتحلل ويتفسخ، إلى أن بلغ الحال أن يحكم أجزاءً من العراق حزب الدعوة، ويحكم أجزاء أخرى داعش الغبراء، والله أعلم من يأتي بعد ذلك.
إنَّ الطيف السني في الأنبار والموصل والبصرة وتكريت وأجزاء من بغداد يمر اليوم بالحالة التي كانت حالة العراقيين كافَّة في القرن التاسع عشر تمر به، بفضل ما بدأه بوش وحاول إكماله جورج دبليو الابن، وما زال العراق يترنح تحت كل تلك الضربات.
والدنيا كلها تعرف أنَّ فتن العراق وسوريا وليبيا والسودان، وما تعرضت مصر له، كل ذلك يجري في إطار تفكيك المنطقة لإعادة صياغتها من جديد صياغة بديلة عن صياغة سايكس بيكو، وإذا كانت صياغة سايكس بيكو قد حدثت لتمكين الحركة الصهيونيَّة واليهود من التجمع في فلسطين تمهيدًا لإقامة الدولة وتحضيرًا لذلك فإنَّ الظروف الراهنة التي يعيشها العرب يراد لها أن تتمخض عن شرق أوسط جديد ونظام دولي جديد، يستبدل به نظام سايكس بيكو، فنظام سايكس بيكو قد انتهت صلاحيَّته منذ أن قامت الدولة العبريَّة، وصار لابد من البحث عن نظام دولي جديد ينبثق عنه شرق أوسط جديد يستطيع أن يستوعب إسرائيل. وما من أحد من العرب يستطيع أن يوقف سير هذه العجلة اليوم، فالطريق أمامها مفتوح لكن الغرب كعادته لا يحب الأمور السهلة، فلابد أن يعقدها ويسعى إلى تحقيق ما يريد بعد قمة التعقيد، والوصول بالأزمة إلى ذروتها.
إنَّ إسرائيل تؤكد على أنَّ أرض إسرائيل الكبرى لا تتسع إلا إلى دولة واحدة هي الدولة العبريَّة، ولا مكان للدولة الفلسطينيَّة التي تعاهدت أمريكا بها لتكون بجوار إسرائيل، فإسرائيل دولة متدينة تضافرت فيها قوميتها ودينها على أهداف محددة، لا تسمح لنفسها بالانحراف عنها، ونتنياهو قد نادى بالدولة اليهوديَّة الخالصة ليهود من دون الناس كافَّة، فلا أحد يستطيع إجبارهم على أن يتقبلوا دولة موازية لمن كانوا يسمونهم بالكنعانيين إلى جوارهم، ومن هنا فلابد من البحث عن أرض أخرى تقام عليها الدولة الفلسطينيَّة؛ لامتصاص الحالة الفلسطينيَّة، وإيقاف تيارات التحريض التي تصدر عنها، فتحرك أحيانًا هذا الفصيل أو ذاك من العرب، وسيناء في الوقت الحاضر ما يزال المصريون متماسكين يشعرون بضرورة حمايتها، وعدم التفريط بشبر منها، ومن يتساهل في تسليم شبر منها لأحد غير أبناء مصر فسيقف بوجهه الجميع ويمنعونه من ذلك.
أمَّا العراق، والأنبار بصفة خاصَّة، فهي أراض واسعة وشاسعة، تستطيع أن تستوعب مع سكانها الأصليين ما بين خمسة عشر إلى عشرين مليون لو جرى إعمارها بشكل دقيق وأمين؛ ولذلك فإنَّ كثير من الباحثين في أمريكا وأروربا قد طرحوا قديمًا وحديثًا فكرة ضم الأجزاء السنيَّة من العراق العربيَّة إلى الأردن، وإدماجه بالدولة الأردنيَّة، وذلك سيعطي للأردن الحديث عمقًا استراتيجيًّا، وسعة في الأرض، وبسطة في الموارد، تسمح باستيعاب الفلسطينيين، بل وإقامة دولة لهم إذا كان ذلك ضروريًّا؛ ولذلك فبدلًا من هذا القتل الدائم للعراقيين، وتصعيد الأزمات بين الفصائل العراقيَّة، والعك والدك المستهين بأرواح العراقيين: لما لا يَختصر هؤلاء الطريق ويساعدوا الملك الهاشمي الأردني على استيعاب القسم العربي السني والشيعي من العراق، وضمه إلى المملكة، وإعادة رسم الخارطة من جديد من غير شلالات الدم الذي يراق صباح مساء ليوصل في النتيجة إلى هذا الهدف؟ فلما لا يُختصر الطريق ويتجهون إلى تحقيق هذا الهدف من الآن فينهوا مجموعة من الأزمات المختلطة المتشابكة مرة واحدة، ويوفروا ما بقي من دماء بريئة لدى العراقيين والفلسطينيين عن السفك والإراقة المجانيَّة دون مقابل؟.
والله من وراء القصد.