أ.د. طه جابر العلواني
بروز الحاجة إلى التفسير:
بعد أن بدأ الناس من أبناء الشعوب الأميَّة غير العربيَّة الإقبال الجماعيّ على الدخول في الإسلام لم يكونوا يعرفون العربيَّة فجعلهم ذلك في حاجة إلى معرفة القرآن الكريم ومعانيه بشكل أكبر وأوسع؛ ولذلك وجدنا الخليفة عمر بن عبد العزيز يشكل لجانًا من العلماء برئاسة ابن شهاب الزهري (ت:124 هـ) ليقوم بجمع السنن والأخبار والآثار لمساعدة الناس في بيان التفسير العملي للقرآن، الذي قام به رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم، لعلّ ذلك يغني عن الفقه الخلافيّ، ومسالك الفقهاء في تكوينه. حيث اعتبر -رضي الله عنه- السنة تفسيرًا عمليًا ومنطقيًا تستفيد به الشعوب الداخلة في الإسلام من كرد وفرس وهنود وغيرهم.
ولعل ذلك يفسر لنا ذلك الاهتمام الزائد لدى العلماء من غير العرب بعد ذلك في كتابة مدونات السنَّة وحفظها، فنجد أهم وأبرز علماء السنَّة من غير العرب مثل “البخاري” و”مسلم” و”النسائي” و”ابن ماجه” و”الترمذي” و”أبو داود” وغيرهم و”ابن حنبل” وإن كان قد ولد في بغداد وعاش فيها لكن الكثيرين يرجعون نسبه إلى “مرو الروذ” فيعتبرونه مروذيًا، لكن الحقيقة أنَّ اهتمام أولئك العلماء في جمع السنن وغربلتها ومحاولة استقراءها استقراءً تامًا عبر اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا هي الفترة الزمنية التي عاشها رسول الله -صلي الله عليه وآله وسلم- يوحى إليه وينزل عليه القرآن فيقوم أولًا بتلاوة الآيات على أصحابه وتعليمهم المراد بها بأوجه مختلفة أهمها الوجه العملي التطبيقي أو ما يجري مجراه كتفسير القرآن بالقرآن والربط بين آياته وسوره.
ولكي يتمكن المسلمون من الفهم العميق والتطبيق الدقيق لآيات الكتاب فتحدث التزكية والتطهر لهم بآيات الكتاب. لقد كان على الأجيال المسلمة التالية أن تستلهم هذا المنهج النبوي وتتفهم خطواته وكيفية الاستفادة به والسير بمقتضاه.
الفقه والفقهاء وفك الترابط بين الكتاب والسنّة:
ولكن انحرافًا في الفهم حصل في وقت مبكر حين برز الفقه والفقهاء وابتكروا تلك التراتبيَّة بين الأدلة، فاعتبروا القرآن المجيد المصدر الأول للتشريع، واعتبروا السنة مصدرًا ثانيًا له يمكن أن يستقل بالتشريع، وذلك تأثرًا بالفقه الذي يصعب عليه تصور تفرد مصدر واحد بالحاكمية في التشريع، فبدلًا من جعل السنة تفسيرًا عمليًا للقرآن المجيد جعلوا منها مصدرًا موازيًا يمكن أن يأتي بما لم يأت القرآن به؛ فبرزت إشكالية (استقلال السنة بالتشريع) وما زالت قائمة. وحدث فصام ما كان ينبغي له أن يحدث بين الكتاب الكريم والسنّة النبويّة. وبدأت أقوال غثة تظهر منسوبة إلى بعض الصحابة أو التابعين مثل قولهم: (النصوص متناهية والوقائع غير متناهية) وقول بعضهم (القرآن حمّال أوجه) وقول بعضهم: (إنّ القرآن تكثر فيه المجملات التي تحتاج إلى التفصيل الذي نجده دائما في السنة) وإشكالية (نسخ الكتاب بالسنة) وهذه أيضًا إشكالية ما تزال قائمة، وتتابعت الإشكاليات في المحكم والمتشابه، وفي البيان ومراتبه، والعموم الخصوص، والأوامر والنواهي، ومراتب النصوص بحسب القطع والظن، ولم تحسم هذه الإشكاليات حتى يومنا هذا.
ولو أنّ العلاقة بين الكتاب والسنة فهمت بالطريقة التي ذكرها القرآن الكريم، وحددت بالقواعد المنهجية المستنبطة من الكتاب الكريم لما برزت الحاجة إلى تكوين علم مستقل يتخذ اسم التفسير بكل أنواعه التي ذكرها الكاتبون في تاريخ التفسير.
معالم المنهج النبوي في التفسير:
- ملاحظة البعد اللغويّ: كان رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- من قريش، وكانت قريش أفصح العرب لسانًا، ورسول الله يعتبر أفصح قريشٍ في لسانه وبيانه؛ ولذلك قال ذات يوم: «أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أنّي من قريش»[1].
- وبتلك الطاقة اللغوية: كان -عليه الصلاة السلام- يحيط بمعاني التعابير القرآنية ويعلم دقائقها والمراد بها، ولا شك أنّه –صلى الله عليه وآله وسلم- محيط بلسان القرآن ونظمه وأساليبه وعاداته في التعبير.
- هذه الخطوة خطوة منهجية على العلماء ألا يغفلوا عنها، ولا شك أنهم كانوا على وعي بها، وأن علماء أصول الفقه كافه كانوا يقدمون لمباحثهم الأصولية ببحث في اللغات، لكن هذه الخطوة المنهجية أصابتها بعض الآفات، حيث اتخذ اللسان العربي كما هو مرجعية يعودون في تفسير القرآن وتحديد معانيه إليها، وكان عليهم أن يعتبروا لسان القرآن هو الأصل ويحاكموا اللغة العربية إلى لسان القرآن باعتباره أعلى درجات البلاغة والفصاحة، ويصدقوا بلسان القرآن على لسان العرب، ويقدموه عليها. ولذلك فإنَّنا نؤكد أنَّ هذا الانحراف اللغوي المبكر في حاجة إلى تصحيح، وذلك باعتماد لسان القرآن ولغته أصلا للسان العربيّ ومرجعيّة له لا العكس.
- كان رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- يبدأ تعليم القرآن بالتلاوة وتعليمهم إيِّاها، فيتلو عليهم القرآن كما أنزل عليه ويأمر الكاتبين منهم وهم حوالي اثنين وستين بكتابتِه؛ ولذلك فإنه لا يحق لأحد أن يقول بأن حكم القرآن في المسألة الفلانية كذا إلا بعد تلاوته كله، وليس له حق الاقتصار على بعضه، وهذه خطوة منهجية أخرى؛ لأنَّ تلاوته كله تُعين المتدبر والمجتهد على فهم موقف القرآن بشكل سليم بعد استقراء آياته.
- كان -عليه الصلاة والسلام- يعلمهم القرآن بعد تلك التلاوة، وهذا التعليم يتناول كل ما يجعلهم قادرين على تمثل ما جاء القرآن به من قيم ومعان وشرائع وأحكام في الواقع بيسر وسهولة قال تعالى: ﴿… وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ (النساء:113) وقال عن مهام النبي –صلى الله عليه وسلم-: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:151) أي يطهرهم بها، وهذا يعني أن منهجه -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يكن يقتصر على التلاوة والتعليم وحدها، بل يتجاوز ذلك إلى تتبع تطبيقاتهم، وعملهم بالقرآن في الواقع؛ ليكون قادرًا على رصد أي انحراف في الفهم أو التطبيق، فيقوم بتعديله فورًا وفقًا لفهمه –صلى الله عليه وآله وسلم- لكتاب الله تعالى ومراده فيما أنزل. وهذا يتضح في مثل واقعه في مثل واقعه عمار بن ياسر حين ظنّ أنّ التيمم بدل من غسل الجنابة يقتضي التمرغ بالتراب، ذلك لأنَّه لما فهم من آية التيمم في قوله تعالى: ﴿…وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة:6)، فهم أن التيمم الذي يكون بديلًا عن الوضوء هو في مسح الوجه والكفين، لكنه ظن أن الاغتسال من الجنابه لا بد أن يكون بالتمرغ التام بحيث يمس الجسم كله التراب، فنبه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- عمّارًا إلى خطأ فهمه واجتهاده وقال: «إنما يكفيك ضربتان ضربة للوجه وضربه لليدين»[2] مبينًا له أنَّ صفة التيمم لا تتغير بتغيّر سبب الطهارة، وأنَّ التيمم واحد سواء كان عن موجب للوضوء أو موجب للاغتسال. وحين نزل قوله تعالى: ﴿…وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ…﴾ (البقرة:187) فهِم عدي الطائي من الآية: أن يكون الإنسان في خيمته المظلمة وهو ينظر في خيطين أبيض وأسود ولا يُمسك عن المفطرات إلا بعد أن يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فلما علم ذلك قال له رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّك لعريض القفا»[3] يريد به أنَّه لم يفهم المراد من الآية، وأنَّه لم يكن موفق في ذلك الفهم، وأنَّ المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود ما يبدو في الأفق، فالسواد الحالك دليل على أنَّنا ما نزال في الليل، وخط البياض الذي يظهر بعد السواد يدل على أنَّنا قد دخلنا الفجر.
- لذلك فإنَّ فهم السنن النبويَّة فهمًا منهجيًا يقتضي إضافة إلى ملاحظة ما تقدم أن ننظر إلى الناظم المنهجي بين الأحاديث فلا نتعامل معها باعتبارها نصوصًا مفرقة مستقلة كما يحدث اليوم في كثير من أنحاء العالم الإسلامي بل يجمع بينها برابط منهاجي، وذلك مثل الأحاديث التي وردت في منع التصوير والتي جعلت من موقف الفقة الإسلامي من التصوير موقفًا مرتبكًا حتى يومنا هذا.
- بناء منهج للتعامل مع السنَّة النبويَّة المطهرة –أيضًا– من خلال تلك الرؤية المنهجيَّة، وباعتبار السنَّة النبويَّة المطهَّرة مصدرًا مبيّنًا عمليًا للقرآن المجيد وتطبيقًا لما جاء القرآن به، يحمل تفاصيل وتطبيقات المنهج والشرعة، وقواعد المعرفة ودعائم ومقومات الشهود الحضاريّ والعمرانيّ.
[1]المحدث:ابن باز – المصدر: التحفة الكريمة – الصفحة أو الرقم: (59)
[2]الراوي: عمار بن ياسر، المحدث: إسحاق بن راهويه – المصدر: تنقيح تحقيق التعليق – الصفحة أو الرقم: 1/216خلاصة حكم المحدث: صحيح.
[3] الراوي: عدي بن حاتم الطائي، المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 4510
خلاصة حكم المحدث: صحيح.