أ.د. طه جابر العلواني
ضرورة المنهج:
قد كانت مرحلة النبوة وعصر الصحابة مرحلة تعتمد على الاتصال المباشر برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ومتابعته والتأسِّي به فيما يقول أو يفعل: «خذوا عني مناسككم»[1]، «صلوا كما رأيتموني أصلي»[2]، والاتِّباع والتأسِّي يعتمدان على ملاحظة التحرُّك العمليّ والتطبيقيّ لرسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– وسيرته في الواقع. فالرسول -صلى الله عليه وآله وسلم– كان يجسِّد بسلوكه القرآن في الواقع، ليحقِّق الربط بين النص والحياة. فالتطبيق النبوي والبيان المحمدي كانا يضيِّقان الشقة تمامًا بين مكوَّنات ومكنونات المنهج الإلهي القرآنيّ، وبين الواقع بمستوى ثقافة أهله وعقلياتهم وقدراتهم الفكريّة والمعرفيّة، وتصوراتهم السائدة آنذاك، وبشروط ذلك الواقع الاجتماعيّة والفكريّة في إطار ذلك السقف المعرفي والعلمي واللغويّ السائد فيه؛ ولذلك كان الرواة من الصحابة –رضوان الله عليهم– حريصين على أن لا تفوتهم أيَّة جزئيَّة تتعلق بحياة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– لأنَّ ذلك هو البديل الوحيد عن الوعي بالمنهج الناظم للقضايا المختلفة في عصرهم، واستخلاص منهج التطبيق منها لمن يأتي بعدهم؛ ولذلك اشتملت المرويَّات على ذلك الكم الهائل من أقوال وأفعال وتقريرات رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– وتلقينا كل تلك التفاصيل التي تجعل سائر الأجيال التالية لجيل التلقي قادرة على أن تتأسى به، وتستخلص من ذلك منهجًا لاتباع القرآن والعمل بآياته وهي تتابع حركته اليومية -عليه الصلاة والسلام- في غدوه ورواحه وسلمه وحربه وتعليمه وقضائه وقيادته وفتواه، وممارساته الإنسانيَّة بطريقة تكشف عن أسلوبه أو سنته -عليه الصلاة والسلام– أو منهجه في التعامل مع الواقع ومكوناته وأحداثه، وتكشف –إضافة إلى ذلك- عن خصائص الواقع الذي كان رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– يتعامل معه، ويمارس حياته فيه، ويتحرك في مجالاته. وهذا الواقع -لا شك- مغاير للواقع الذي نحياه في تركيبته وقضاياه ومشكلاته، وعلاقات أهله، مغايرة نوعيَّة. إضافة إلى المعايرة الكميَّة التي نسلَّمها جميعًا.
لقد كان -عليه الصلاة والسلام- في سيرته وسنَّته يمثل تجسيدًا للربط بين المنهج القرآني والواقع المعيش؛ ولذلك فإنَّ من الصعب فهم الكثير من القضايا في معزل عن فهم ذلك الواقع الذي كان -عليه الصلاة والسلام- يتحرك فيه، ويجاهد ويجتهد لتغييره وإصلاحه، ويكون ذلك الفهم بدراسة واقع عصر النبوة وما فيه، إضافة إلى أسباب ورود الأحاديث. والأحداث التي ترتبط بها هذه الأحاديث قد يحولها المختلفون إلى أقوال جزئيَّة قد تدل على الشيء ونقيضه، وكأنها أقوال أئمة المذاهب المختلفة إذا لم يلاحظ الرابط المنهجيّ بينها.
لقد ارتبط المسلمون في مرحلة نزول القرآن بمفاهيم (التأسِّي والاهتداء والاتّباع والاقتداء) ولم يؤمروا بالتقليد أبدًا. وهذه المفاهيم الأربعة تشترك في أنَّ تحقيقها يقتضي معرفة منهج المتأسَّى به –صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ولذلك أمر رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– بالاهتداء بهدي من سبقه من الأنبياء والرسل ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ..﴾ (الأنعام:90)، أي بمنهجهم في الطاعة والدعوة والتبليغ والبيان والتطبيق، ولم يؤمر بتقليدهم. وقد مكَّن ذلك من اتخاذ الصحابة من رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– قدوة عملية مثّلت لهم «المنهج» طبقًا لشروطهم الواقعيّة الحياتيَّة، ويمكن ملاحظة ذلك في مواقف الشيخين –رضي الله عنهما– من السنن، وأم المؤمنين عائشة وبقية كبار قراء وفقهاء الصحابة. ومن الاتِّباع والاقتداء والاهتداء نشأت اتجاهات التعامل مع «المأثور والمنقول»، فاهتدى بذلك من اهتدى، وزاغ عنه من زاغ، وأصاب الفهم الدقيق لذلك المأثور من وفقه الله، وجانبه من خذل.
لقد كانت تلك الرؤية المضطربة للعلاقة بين الكتاب والسنَّة آثار سلبيّة كثيرة، برزت لدى بعض من جاء بعدهم الحاجة للتخفيف من الآثار التي نجمت عن التعامل الجزئيّ مع القرآن المجيد، ورواية الأحاديث والسنن مجزأة وبعيدة عن سياقها. فلجأ –بعد ذلك- من لجأ إلى التأويل الباطنيّ والتفسير الرمزيّ والإشاريّ باعتباره مخرجًا من التقيُّد بحرفيَّة المأثور أو بجزئيَّاته. واستسهل البعض رد الأحاديث، ولكن بعض التأويلات ما زادت ذلك الأمر إلا اضطرابًا. وثارت بعد ذلك مشكلات «حجيَّة السنة» جملة أو حجيّة بعض أنواعها (أخبار الآحاد) وغير ذلك من قضايا لا نزال نعاني منها، ومن الآثار الفكرية التي تخلفت عنها، ولو أنه تم الكشف عن المنهج القرآني للتعامل مع ما قاله أو فعله أو أقره الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم– لأمكن أن ينضبط التعامل مع ذلك المنقول –كله– ولردت الجزئيَّات إلى الكليّات، ولفهمت في إطار المنهج سائر القضايا الجزئيَّة، لأنّ المنهج كفيل بتبيُّن المقاصد، واتضاح الغايات.
العقليّة المعاصرة:
إنّ العقلية المعاصرة عقلية تبحث –باستمرار- عن الناظم الموضوعيّ للأمور، وتحاول النفاذ إلى المنهجيّة الكاملة في الأبعاد المختلفة، هذه المنهجية تعتمد على التحليل المنهجي والتفكيك والنقد والتفسير وتجعلها الوسائل الأساسية والإطار الموضوعيَّ للحركة الفكريَّة في تعاملها مع النصوص والقضايا الكونيَّة والمحليّة. وبهذه المنهجيَّة يمكن النفاذ إلى مقاصد القرآن المجيد ومحاوره وقيمه العليا وكليَّاته، وتفهم السنن النبويّة فهمًا منهجّيًا يحمي من الوقوع في إطار ماضويّة سكونّية أو تأويلات باطنَّية، أو محاولات تجديديَّة تعمل على إحداث تعديلات أو تأويلات لتطبيقات الماضي لتعيد إنتاجها في الحاضر، فكأنَّها تعبير عن الماضي فهمًا وتطبيقًا ولكن في ثوب جديد.
إنَّ السنة النبوية المطهرة بمفهومها القرآني وخصائصها البيانية يفترض أن يحتل الجانب العملي والتطبيقي منها أعلى المستويات لأن الله -تبارك وتعالى- قد أناط مهام تلاوة آيات الكتاب واتباع تلك الآيات وتعليم الناس الكتاب وبيان منهاج اتباعه وتطبيقه وتفعيل آياته في تغيير الواقع، ذلك كله كان يقتضي أن تكون السنة الفعلية والجانب العلمي التطبيقي من تصرفات رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- صاحبة المرتبة العليا في تعليم الكتاب والحكمة، وفي تقديم منهج التأسي برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- للناس كافة.
بين القول والفعل:
الفقهاء منذ البداية انصرف اهتمامهم للأقوال الصادرة من النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- وضعف اهتمامهم بالأفعال واختلفوا في حجيتها؛ وذلك تأثرًا بالاتجاه القانوني منذ عرفت البشرية القوانين، فالأقوال يسهل تحويلها إلى قواعد شاملة في الأمر والنهي وبيان العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإحكام والتفصيل (الإجمال والبيان) والمنطوق والمفهوم وما إلى ذلك.
وللأقوال لغتها وللقوانين لغتها منذ فجر التاريخ، أمَّا الأفعال فحين تُفصل عن الكتاب الكريم أو عن أقوال رسول الله بحيث لا يُقترن الفعل بالقول فإنَّ من الصعب على المجتهد مهما علا كعبه في الاجتهاد والاستدلال أن يمارس فيه ملكته الفقهية مثل ما يمارسها في الأقوال والاستدلال بها وبيان مراتبها في طلب الفعل أو طلب الترك وليس كذلك الأفعال. ونحن نعتقد أنَّ هذا الاتجاه هو اتجاه أملته العقلية الفقهية القانونية طلبًا للوصول إلى الأحكام بأيسر الطرق القائمة على صيغ الألفاظ والتي لا تحتاج إلى جمع بين القرائتين: “قراءة القرآن” و”السنة النبوية” بتصديق القرآن وهيمنته؛ ولذلك فإنَّهم لم يختلفوا في أنَّ مطلق الأمر للوجوب ومطلق النهي للتحريم. وكما اتفقوا في كثير مما يتعلق بالنظر في الأخبار من تواتر وأحاد واستفاضه وشهرة، وما يتعلق بالأسانيد ومعرفة الرجال، لكنهم حين جاءوا لأفعال الرسول وتقريراته فقد اختلفوا فيها اختلافا شديدا بعد اتفاقهم على اشتراك أقواله –صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يتعلق بنقلها من الأسانيد، ولكن قالوا بأن المتون التي تروى فيها أفعال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيها اختلاف كبير، وقد لخص ذلك الإمام الرازي في المحصول: إذ قال: ” اختلفوا في أنَّ فعل الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم- بمجرده هل يدل على حكم في حقنا أم لا؟ على أربعة أقوال:
أحدُها: أنَّه «للوجوب» وهو قول ابن سريجٍ، وأبي سعيدٍ الإصطخريِّ وأبي علي بن خيران.
وثانيها: أنَّه «للندب»، ونُسب ذلك إلى الشافعي.
وثالثها: أنَّه «للإباحة»، وهو قول مالك .
ورابعها: يتوقف في الكل، وهو قول الصيرفي، وأكثر المعتزلة، وهو المختار”.
وقال الإمام الرازي أيضا: “وذهب المحدثون من أهل كل مذهب إلى أنَّ فعل الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم- إذا فعل مطلقًا فلا يثبت به علينا حكم أصلًا لا وجوبًا ولا ندبًا ولا إباحة ولا حظرًا ولا كراهة، والحكم علينا بعد نقل فعل الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم- كالحكم علينا قبل نقله”[3] .
وقال الغزالي بعد أن حكى المذاهب كلها في المستصفى: “هذه تحكمات؛ لأنَّ الفعل لا صيغة له، وهذه احتمالات متعارضة، بل هو متردد بين الإباحة والندب والوجوب، وبين أن يكون مخصوصًا به، وبين أن يشاركه غيره (أي من الأمّة) ولا يتعين واحد من هذه الأقسام إلا بدليل”. وحيرة الأئمة الفقهاء في هذا الموضوع نجمت عن صعوبة الجزم بتعدية الحكم إلى الأمَّة وإثبات وجوب تأسيها بها -عليه الصلاة والسلام- وإن عرفت جهه فعله، وكذلك ترددهم واستشكالهم تعيين مستوى الفعل من الوجوب أو الاستحباب وإن كان وجوب التأسي ثابتًا.
ونقل أبو الحسين البصري في المعتمد نحو ذلك حيث قال البصري: “لا خلاف بين الأمَّة في الاستدلال بأفعال النبي على الأحكام ثم اختلفوا، فقال قوم: هي أدلة بمجردها وقال قوم هي أدلة إذا عرف الوجه التي وقعت عليه، واختلف الأولون، فقال بعضهم: هي أدلة بمجردها على الوجوب. وقال آخرون: بل على الندب. وقال آخرون: بل على الإباحة . فأمَّا من قال: إنَّها أدلة باعتبار الوجه، فإنَّه الذي وقع عليه، فإن علمت الطريقة التي اتبعها النبي في ذلك الفعل عقلية كانت أم سمعية يرجع إليها في الاستدلال وإن لم تعرف الطريقة فضربان:
أحدهما: أن يكون فعله بيانًا لمجمل، فذلك المجمل هو دال على الوجوب أو الندب أو الإباحة، والآخر أن لا يكون بيانًا لمجمل، فلا يدل على شيء حتي يعرف الوجه الذي أوقعه عليه، فإن أوقعه على الوجوب دل على وجوب مثله علينا، وإن أوقعه على الندب دل على أن مثله ندب منا، وإن أوقعه مستبيحًا له كان منا مباحًا.
قلت: ويفترض أنَّ القائلين بحجية السنة يعتبروا أفعال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- أدلة بمجردها دون التفات إلى الوجه الذي أوقعت عليه، فنحن مطالبون باتباعه والتأسي به على وجه الإطلاق. وهنا نجد أنَّ الأصوليين بناء على ذلك وعلى أنَّ الأفعال لا تقترن بصيغ تدل على طلب الإقدام أو الإحجام جعلوا غاية ما يمكن أن يستدل بها عليه أن تكون قربه أو غير قربه؛ ولذلك فقد جعلوا أفعاله –صلى الله عليه وآله وسلم- في أقسام:
القسم الأول: ما وقع منه على سبيل الامتثال للقرآن من وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وما إلى ذلك، فيتساوى فيه رسول الله وأمته.
القسم الثاني: الأفعال الطبيعية التي تغلب عليها الإباحة من القيام والقعود والنوم والسفر والإقامة، وهذه يتساوى فيها البشر مع رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- ويندرج الجميع تحت الأدلة العامة مثل قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ..﴾ (البقرة:29) ويدخل في ذلك ما كان يحبه من الطعام والشراب واللباس، وطرائقه في النوم والمشي، وبقية شمائله –صلى الله عليه وآله وسلم.
القسم الثالث: الأفعال التي صدرت عنه وجاءت أدله أخرى تبين أنّه خاص به، مثل إباحة الزيادة في النكاح على أربع، ووجوب قيام الليل عليه.
والقسم الرابع: ما اقترن بتوجيه قرآني وعلم الناس أنه تطبيق لذلك: كجلد الزاني، وتطبيق أحكام اللعان، والقذف وما إلى ذلك، وهناك أفعال صدرت منه ابتداء ولم يعلن أنها من خصائصه وليست من الأفعال الطبيعية التي طبع الناس عليها، فما علمت صفاته من كونه واجبًا أو مندوبًا أو غير ذلك من صفات الأفعال فإنَّه يأخذ تلك الصفة، وأمَّا ما لم تعلم صفته فلا يخلو أن يظهر فيه قصد القربه أو لا يظهر فيه ذلك”[4] .
خلاصة الامر:
فعله –صلى الله عليه وآله وسلم- لا يخلو إمَّا أن يكون من الأفعال الجبلية الطبيعية أم لا، فإن لم يكن منها فلا يخلو إما أن يكون من خواصه أو لا، فإن لم يكن فلا يخلو إما أن يكون بيان لأمر قرآني وتطبيق له أو لا، فإن لم يكن فلا يخلو إما أن تعلن صفته أو لا فإن لم تُعلن صفته فلا يخلو إما يظهر فيه قصد القربه أم لا، فهذه سبعة أقسام والله أعلم .
هذه بعض أهم معالم نهج النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- في بيان القرآن الكريم وتفهيمه للمسلمين.
[1] صحيح مسلم/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.- دار إحياء التراث، رقم الحديث (1297)، (ج2، ص 943) تجده فيه بتمامه وبلفظ آخر.
[2] الراوي: مالك بن الحويرث المحدث: الذهبي – المصدر: تنقيح التحقيق – الصفحة أو الرقم: 1/164خلاصة حكم المحدث: صحيح.
[3] المحقق لأبي شامه دراسة، وكتابه المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم- الباحث: عبد الله بن عيسى العيسى، تحقيق وطبعة الجامعة: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الكلية: كلية الشريعة، ص: 187.
[4] كتاب المعتمد في أصول الفقه- تأليف: أبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي- تحقيق محمد حميد الله، بتعاون محمد بكر، حسن حنفي- المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية دمشق، الجزء الأول 1384/1964، باب:”في أن السمع على الإطلاق لا يقتضي وجوب مثل ما فعل النبي” -377ص.