أ.د/ طه جابر العلواني
إنَّ الله (سبحانه وتعالى) قد شرع لنا كل ما من شأنه أن ينظم الحياة، ويجعل منها حياة طيبة، لا شذوذ فيها ولا عوج ولا أمتا، ولم يُغفل منها صغيرًا ولا كبيرًا إلا أحصاه، سواء أكان في مجال العبادات والسلوك، أو في مجال الاحتفاء والاحتفال بالفراغ منها، ولكيلا يكون الفراغ من العبادة فرصة للتحلل من سائر الضوابط والخروج على الأهداف والمقاصد التي أدت العبادة إلى تحقيقها والاحتفاظ بآثارها؛ فإنَّه (جل شأنه) جعل تلك الآيات تتسم بحمل أمانة القيام بعبادة أخرى تؤدي إلى السرور بالفراغ من العبادة والخروج من موسمها إلى موسم آخر من مواسم الخير.
فإنَّ الله (تبارك وتعالى) قد جعل لنا عيدين، عيد الفطر، وعيد الأضحى، وفي كل من العيدين يجري انتقال رشيد من حالة التلبس بعبادة الصيام وعبادة الحج للدخول في حالة جديدة هي حالة التعبد مع الفرح والحبور بتمام النعمة بالتمكين من أداء العبادة على وجهها ، ففي الصيام يقول الله (جل شأنه) لنا: ﴿.. وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة:185).
فالعيد هنا عيد يدخل السرور والحبور إلى قلب المؤمن الصابر الصامد بإكماله فريضة الصيام وإتمامه عدته، فيكبر الله (جل شأنه) وهو يرى تحرك الزمن به بأمر الله وإذنه من حال إلى حال، فالله أكبر من الزمن ومن قوى الطبيعة المخلوقة المسخرة، والانتقال من التعبد بالصيام إلى التعبد بالإفطار، وفي ذلك كله لا تُنسى الغايات والمقاصد، ولا تُمحى آثار العبادة، بل تتحول إلى نوع من التراكمات بين الفضائل والأعمال والأقوال الفاضلة لتُبنى الذات الإنسانيَّة بناءً ربانيًّا، يجعلها على صلة بربها وإلاهها في كل حين، فلا غفلة عن ذكر الله، ولا تحلل من شرع الله، ولا انغماس في الشهوات، بل الانتقال إلى عبادة أخرى.
ونحن بصدد عيد الفطر والانتهاء من صيام شهر رمضان والفراغ من الأيام المعدودات، فنجد الباري (سبحانه وتعالى) يندبنا إلى التكبير، تكبير الله (جل شأنه)، فلولا ألوهيَّته، وربوبيَّته، وعظمته (جل شأنه) لما أمكن لنا أن نؤدي هذه الفريضة، فريضة الصيام، التي تدور مع استدارة الزمن فتأتي أحيانًا في الصيف وأحيانًا أخرى في الشتاء أو الربيع أو الخريف، بحيث لا يحرم الإنسان من عبادة يقوم بها في أي جزء من أجزاء العمر، ويبقى على ذكر لربه، لا ينساه ولا يتجاوزه: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (الزخرف:36)، فصلاة العيد والتكبير والتهليل والإفطار في يوم العيد يتحول إلى احتفال وفرح وحبور على مستوى الفرد والأمَّة، دون خروج على مقاصد الدعوة والشريعة والإيمان، بل لتأكيد ضروة التمسك بذلك والعناية به في سائر الأوقات.
وأمَّا على مستوى الأمَّة فإنَّ العيد يتحول إلى موسم لإظهار التضامن بين جميع مكونات الأمَّة وضرورة إشراكهم في حالة السعادة والحبور، بإكمال العدة، وتكبير الله (جل شأنه) على الهداية، وشكر نعمه في سائر الأحوال، فينتقل من عبادة الصيام والقيام إلى عبادة الإحساس بالسعادة ونعمة الهداية التي تربي في الإنسان المسلم إحساسه بالمسئوليَّة عن المنتمين للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وتقديم كل ما يجعلهم شركاء سعداء في هذه المناسبة، ويحول دون انطواء أو انكماش أحد منهم وانصرافه إلى نفسه وخويصة شأنه، بل تكون الأمَّة كلها حاضرة في ذهنه، ماثلة بين عينيه، تشاركه ويشاركها، فيشعر بذلك الامتداد والعمق البشري والجغرافي ويتجاوز الحدود والسدود ليتواصل مع الأسرة الممتدة التي تمثل الأمَّة، ثم مع الأسرة في محيطها البشري الإنساني ليتذكر الإنسان آنذاك القيم العليا والمقاصد المطلقة في (التوحيد، والتزكية، والعمران، وبناء الأمَّة، وتنظيم الدعوة)، فكانت زكاة الفطر. وزكاة الفطر نموذج مصغر لركن الزكاة، وزكاة الفطر فيها جميع الحِكم والأسباب التي تؤدي إلى توثيق روابط الأمَّة وتدعيم كيانها وسد الثغور التي قد توهن روابطها أو تقلل من متانة تلك الروابط، وقوتها.
وزكاة الفطر أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكون وسيلة لإيجاد نموذج لحالة استغناء الأمَّة بمواردها، واكتفائها بما أنعم الله عليها، والحيلولة دون مد أحد شعب أو أسرة أو فرد يده إلى الغير، فالأمَّة هي صدر الأم الحنون الحاضن لجميع الأبناء، الذي يحمل الأغنياء إلى مساواة الآخرين بهم، وتهيئتهم إلى القيام بما يغنيهم عن ترك المشاركة الكاملة مع أغنياء الأمَّة والمقتدرين ماديًّا منهم، فالكل يفرح والكل يكبر الله على ما هداه، والكل يستمتع بتلك اللحظة الفارقة بين عبادة أو موسم وموسم آخر.
ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يضرب للناس المثل حين جعل الزكاة – زكاة الفطر – شاملة لسائر الأموال التي تؤدي إلى ذلك المقصد، فلم يحول هذه الزكاة إلى طقس من الطقوس الشكليَّة بل جعلها عنوانًا على أهم وسائل التعاون والتكافل والتعاضد والمشاركة الحقيقيَّة، فلم يقيدنا إلا بشيء مقدور عليه من غالب أقوات البلاد وعناصر الاحتياج لدى الناس فجعلها صاع من أي طعام يمثل جزءً من منظومة الحياة الغذائيَّة لدى الأمَّة، بُرًا كان أو شعيرًا أو سويقًا أو زبيبًا أو تمرًا أو الغالب من قوت البلد، والصاع هو مكيال لأهل المدينة يسع أربعة أمداد، والمد هو مقدار ملء اليدين المتوسطتين من غير قبضهما، ومقدار الصاع بالكيلو جرام يساوي ثلاثة كيلو جرامات وربع الكيلو جرام.
ونجد أنَّ العلماء قد أدركوا الحكمة ولم يتقيدوا كثيرًا بالأشكال، فذهب كبار الأئمة إلى جواز دفع المال المعادل لأقيام الصاع في غالب قوت البلد. وذهب آخرون إلى عدم جواز دفعها إلا من الأطعمة التي كانت متداولة في مجتمع الصدر الأول، وتشددوا في ذلك، واعتبروه مقصودًا من مقاصد العبادة، وهو ليس كذلك، فالأئمة: أبو حنيفة وجعفر الصادق وقول لأحمد وسواهم ذهبوا إلى جواز دفع زكاة الفطر مالًا، ولا ينبغي أن نفسد مقصد العيد، والتضامن في قافلة تسبيح وتهليل وتكبير مشتركة بجدل عقيم حول دفع الصيعان كما كانت في وقته (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو دفع المال، فلا شك أنَّ دفع المال يعطي للمعوزين من أبناء الأمَّة فرصة شراء ما يحتاجون إليه، فقد يحتاج الإنسان منهم إلى طعام في حين يحتاج الآخر إلى ثياب والثالث إلى دواء وهكذا، فلا ينبغي أن تسيطر على مثل هذه العبادات العقليَّة السكونيَّة، والاتجاهات الشكلانيَّة، وتحويل يوم العيد وموسمه إلى موسم للجدل والنقاش والصراع حول ما إذا كان الواجب أن تدفع زكاة الفطر عينًا (زبيبًا أو سويقًا أو شعيرًا) أو تدفع القيمة. ووقت دفع زكاة الفطر سواء بالقيمة أو الصيعان يشترط أن تكون قبل صلاة العيد وبعده تتحول إلى صدقة، وزكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو في الصلاة تجبر نقص الصيام.
كذلك ينبغي أن نستبعد الجدل حول ما إذا كان الناس أخطأوا في بدء الصيام أو الإفطار بناء على الحساب الفلكي والرؤية البصريَّة، فشريعتنا شريعة مقاصد وعلل وأحكام وتكوين عقلي ونفسي يجعل الإنسان قادرًا على أن يأخذ من صفو العبادة ومقاصدها العليا سواء السبيل.
فإذا فرغنا من ذلك فإنَّ الله (تبارك وتعالى) قد مَنَّ علينا بتنظيم التهليل والتكبير، وجمعنا في أماكن صلاة كبرى نكبر فيها تكبيرًا مشتركًا ونصلي صلاة العيد جماعة، وتكون فرصة للتلاقي والتعارف وتمكين الروابط، وتقوية أواصر الإحساس بالانتماء إلى أمَّة ممتدة أمَّة الإجابة، وتذكر أمَّة الدعوة التي علينا أن نوصل القرآن إليها، ونوجه لها دعوة الانضمام إلى أمَّة الإجابة، لتنتظم قافلة الإيمان بالله، وتمجيده وتسبيحه، وتكبيره (جل شأنه).
وصلاة العيد سنَّة مؤكدة، وهي ركعتان، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال، وتسن الجماعة فيها، وتصح لو صلاها الشخص منفردًا ركعتين كركعتي سنة الصبح. ويسن في أول الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام سبع تكبيرات، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات بعد تكبيرة القيام، ويقول بين كل تكبيرتين: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ويسن خطبتان بعد الصلاة يكبر الخطيب في الأولى منهما تسع تكبيرات، وفي الثانية سبع تكبيرات.
ويسن التبكير بالخروج لصلاة العيد من بعد صلاة الصبح، إلا الخطيب فيتأخر إلى وقت الصلاة، والمشي أفضل من الركوب، ومن كان له عذر فلا بأس بركوبه، ويسن الغسل، والتزيّن بلبس الثياب وغيره، والتطيب وهذا للرجال، أمَّا النساء فيكره لهن الخروج متطيبات ومتزينات.
أعاد الله (تعالى) عليكم الأعياد دائمًا بالخير واليمن والبركات والوحدة والتآلف والسلام والإسلام، وجعلها فرصة للتذكير الدائم بضرورة التواصل والتكافل بين الأمَّة الإسلامية جميعها في مشارق الأرض ومغاربها. كل عام أنتم بخير.