Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

التدبر وسيلتُنا لفهم القرآن الكريم ح1

(الحلقة الأولى)

أ.د/ طه جابر العلواني

التدبر هو التفكر فيما وراء الظواهر، ومعرفة أدبار الأمور، وعواقبها، وما لا تراه العين للوهلة الأولى منها، فالقرآن خطاب مفتاحه التدبر، أيّ أن يقبل القارئ المؤهل الذي هيأ قوى وعيه ووسائل إدراكه لتدبر القرآن الكريم بعقل علميّ لديه من المعرفة والاستعدادات ما يعينه على تدبر هذا الخطاب، ومعرفة المراد به.

ما الذي يبحث المتدبِّر عنه؟ وكيف يمارس التدبُّر للوصول إليه؟

إنَّ “المتدبِّر” قد تلقَّى خطابًا في قول ثقيل متحد معجز ذي مواصفات خاصَّة لا يشاركه فيها أيّ خطاب آخر، وله مضمون ورسالة وهدف ومقاصد وغايات وعواقب. وهو خطاب صاغه مخاطب﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(الملك:14). وقد فصَّله على علمه المحيط بكل شيء، فهو علم مطلق منزَّل من لدن العليم الخبير ﴿.. كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(هود:1)، الذي أحاط بكل شيء علمًا، فلا يتوقع من المتدبِّر أن ينشغل بكل تلك التفاصيل التي قد ينشغل بها المتعاملون مع الخطاب البشري أيًا كان.

وقد سبق أن نبَّهنا إلى أنَّ القرآن قد استوعب ثنائيَّة “الواقع والمثال”، وتجاوزها، ولتوضيح مرادنا بالواقع والمثال نقول: إن الله (عز وجلّ) حين أمر بأمور وفرض فرائض، وكلف الناس بها لم يكن غائبًا عن علمه المحيط الشامل طاقات الإنسان وقدراته، وتأثير علاقاته بالزمان والمكان في كثير من شئونه وشجونه؛ ولذلك نجد في كثير من التكاليف مستويات متعددة، فهناك مستوى عال، كأن الله (عز وجلّ) جعله المستوى الذي على الإنسان أن يحاوله وهو يؤدي ما كلفه الله به، وقد تقصر طاقاته دونه. وهناك مستوى أقل، وأقل منه؛ ولذلك ورد في الآثار “حسنات الأبرار سيئات المقربين”.

 فالصلاة على سبيل المثال، مستواها الأعلى أن تؤدى في وقتها بخشوع تام وقنوت وإخبات لله (عز وجلّ)، مع إسباغ الوضوء، وإقام الصلاة، والطمأنينة في كل حركة وسكنة، وعدم الغفلة عن الله في أيَّة لحظة من لحظاتها، وذلك شأن المقربين وصلاة النبيين، ومستوى آخر دون ذلك. فالمستوى الأول لا يطيقه إلا ذلك الصنف الذي هيئه الله لإقامة الصلاة، أما المستويان الثاني والثالث في متناول الكثيرين من عباد الله. ولكن ينبغي لهؤلاء أن يبذلوا جهدهم، ويحاولوا ما استطاعوا أن يبلغوا المستوى الأول ويصلوا إليه. والمستوى الأول هو الذي يحقق مقاصد الخالق من الخلق، ويحقق في الحكم أهدافه ومقاصده بشكل كامل، وفي ذلك يقول “ابن الفارض” في تائيته:

ولوْ خطرتْ لي في سواكِ إرادة ** على خاطري سهوًا قضيتُ بردَّتي

فكأنَّ المستوى الأول، هو مستوى المثال، الذي يضعه الله (تبارك وتعالى) لنا لنحاول بلوغه والوصول إليه، وأمَّا المستويان الثاني والثالث، فمستويان يستطيع الإنسان العادي بلوغ أي منهما بشيء من التركيز، وبذلك يمكن أن يقرب فهم الفارق بين الواقع والمثال.

إنزال القرآن على القلب:

إنَّ القرآن خطاب يُنزّل على القلب مباشرة فيشتبك مع قوى وعي السامع والمخاطب بشكلٍ مباشر، ووعيّ القارئ المخاطب هو الذي سيستقبله. وحين يبدأ وعي القارئ بالتفاعل معه للكشف عمَّا بين يديه وما خلفه سوف يفرض هذا الخطاب القرآنيّ المتعالي المتنزِّل على ذهن المتلقي تساؤلات كثيرة تختلف تمامًا عن التساؤلات التي يثيرها أيّ خطاب آخر. ولعلَّ أهم الاختلافات بين ما يثيره الخطاب القرآني وأيّ خطاب آخر غير الخطاب القرآني هو أنه قد يثير تساؤلات حول ما في ذهن مرسِل الخطاب من مقاصد وغايات، أو مطامع يطمع أن يطلب المرسِل إلى المرسَل إليه القيام بها، بل يفترض بالمخاطب بالخطاب القرآنيّ، وقد أدرك متلقِّيه كل ما ذكرنا ومالم نذكر أن يتَّجه المخاطب للبحث عن دور له في ذلك الخطاب يُعمِل فيه ذهنه وخياله، ويمارس فيه نشاطه الإنسانيّ.

إنَّ المتلقّي الأول للقرآن المجيد هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  تلقاه بقلبه أولا، قال تعالى ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 192-195)، ثم قام بتّمثل القرآن واتِّباع كلّ ما جاء فيه حتى صار وكأنَّه نسخة بشريَّة للقرآن المجيد فكان خلقه القرآن وسلوكه القرآن وتصرفاته – كلّها – اتِّباع للقرآن، وبذلك رسم “منهج الاتِّباع” بدقَّة لا مزيد عليها ليتمكَّن الخلق من التأسِّي به، ولكن المتأسِّين به مهما اجتهدوا فإنَّهم لن يبلغوا مستوى الاتِّباع الدقيق السليم إلا إذا حالفهم التوفيق الإلهي؛ ولذلك فإنَّ المؤمنين يعملون على أن يحوِّلوا واقعهم إلى واقع تتجلَّى فيه أنوار القرآن وهدايته، لتشاهد التحوّلات التي أحدثها القرآن ويحدثها في بيئاتهم التي سوف تساعد مع المجتمع على إبراز كيانات اجتماعيَّة تهتدي بهداية القرآن، وتستظلّ بأنواره – وآنذاك – تتشكل شخصيَّة ذلك المجتمع في هيكل مؤطّر بمجموعة العلاقات الاجتماعيَّة المتغيِّرة المتحرِّكة في إطار “المرجعيَّة القرآنيَّة وقيمها الحاكمة”، ويكون نصيب كل فرد في ذلك المجتمع مماثلًا لنصيب الأراضي المتنوّعة من الغيث، فهناك أرض تهتزّ وتربو وتنبت من كل زوجٍ بهيج ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (فصلت:39)، وهناك أراض تحتفظ بالماء ليستفيد به الإنسان والحيوان والنبات، وهناك أراض أجادب لا تنبت زرعًا ولا تمسك ماءً وهناك وهناك… إلخ.

وهنا يأتي دور “التدبُّر”؛ فالتدبُّر ضروريُّ ليقوم بقيادة القارئ للتّفاعل مع الخطاب القرآنيّ، ومعرفة دوره بالنِّسبة إليه. “فالتدبُّر” يقود القارئ إلى التّفاعل مع الخطاب. وهنا يجد القارئ نفسه وجهًا لوجه في مواجهة الخطاب فيستدعي التاريخ وآفاق الفهم، ويؤسس للعلاقة مع الخطاب. إنَّ “التدبر” يجعل القارئ يبحث عن المعنى الذي ينشأ نتيجة تفاعله مع الخطاب لا عن المعنى الكامن أو المكنون فيه فيصبح المعنى -آنذاك-“أثرًا” تمكن ممارسته لا “موضوعًا” يمكن تحديده.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *