أ.د/ طه جابر العلواني
ليلة القدر ورد في كتاب الله (جل شأنه) تنويه بليلة من ليال شهر رمضان المبارك وذلك في قوله (تعالى): ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر:1-5)، وقوله (تعالى): ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الدخان:1-6).
والله (تبارك وتعالى) أوضح في آيات أخرى أنَّه (جل شأنه) يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس، قال (تعالى): ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ (الحج:75)، ونعلم أنَّه (جل شأنه) قد جعل البيت الحرام في مكة قيامًا للناس: ﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ ..﴾ (المائدة:97)، وحرمًا آمنًا، ويتخطف الناس من حوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ..﴾ (العنكبوت:67)، واختار أرضًا أخرى وسماها بالأرض المباركة أو المقدسة: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ..﴾ (المائدة:21).
وذلك كله يعني أنَّ لله (تبارك وتعالى) أن يصطفي من الإنسان ومن الزمان ومن المكان ما يشاء، ويخصه ببعض الفضائل. وبالنسبة للكتب المنزلة ذكر (جل شأنه) التوارة والإنجيل والزابور والقرآن وصحف إبراهيم وموسى، وفضَّل (جل شأنه) القرآن على كل ما عداه، فأنزله في الحرم وهي أرض مصطفاة على نبي اصطفاه من أهل الحرم الأساسيين، ومن ذرية إسماعيل وإبراهيم، وأنزل القرآن المجيد إلى اللوح المحفوظ في ليلة جعلها ظرفًا لنزوله، فاستمدت أفضليتها وأهميتها من كونها ظرفًا زمانيًّا لنزول هذا القرآن، فاصطفى لكتابه هذا مكان النزول، والنبي الرسول الذي أنزل القرآن عليه، وزمان النزول الكامل إلى اللوح، ثم التنزُّل نجومًا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى اكتمل من بدء النزول إلى انتهائه اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا قبل وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) بواحد وثمانين يومًا، وليبين فضل القرآن المجيد وضرورة التمسك به والالتزام به قراءةً وتطبيقًا وعدم التفريط بأيَّة آية من آياته خلَّد ذلك كله، وجعله موسمًا لاحتفال الملائكة والوحي وهو المراد بالروح في القرآن كله، وسائر ما ورد؛ ليعرف الناس الرحمة التي مَنَّ الله عليهم بها بإنزال هذا القرآن المجيد.
ومداخل الشيطان عديدة أهمها الانحراف في المفاهيم والمقاصد والغايات، فيحوِّل الشيطان أنظار الإنسان أحيانًا عن المقاصد الأساسيَّة إلى الجوانب العرضيَّة، فالقرآن المجيد حدد لنا المقصد الأساس من الإشادة بالقدر، وليلة القدر، والاصطفاء الزماني، والمكاني، والإنساني، بأنَّ الغاية منه إظهار عظمة هذا القرآن، وضرورة التمسُّك التام بكل ما جاء فيه، وكل ما نزل فيه، وعدم التفريط بأي حكم من أحكامه، أو توصية من وصاياه، أو أمر أو نهي أو موعظة أو بشارة أو نذارة أو ما شاكل ذلك، فكل ذلك مما ينافي المقصد الأساس من بيان قدر تلك الليلة، وأهميَّة الالتفات إليه، وتحويله من الكلام عن فضائل القرآن إلى أمور أخر، وقد نعى الله (جل شأنه) على المشركين اهتمامهم بالشكلانيَّة، وصغائر الأعمال، حين قال: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة:19)، فالإسلام قد علَّمنا كيفيَّة الاهتمام بالمقاصد والحقائق وعدم الاستغراق في الشكليَّات والظواهر والرسوم والصور.
إنَّ من الخطورة بمكان أن يحيل العبد العلاقة بينه وبين الله (تعالى) الذي يفترض أن لا يغفل عنه لحظة واحدة من حياته: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (الزخرف:36) إلى علاقة موسميَّة تتقيد بزمان معين ومكان محدد، والعبادة إذا لم تؤدِ بعدها إلى أن يذكر الإنسان اللهَ كذكره أباه أو أشد ذكرًا فذلك يعني أنَّها خداج، فالله (جل شأنه) قال: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ..﴾ (البقرة:200).
ومن المؤسف أنَّنا نجد الكثيرين من مسلمي اليوم يعبدون الله (جل شأنه) من الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان، ويرتعون بكل ما في الحياة من أمور خارج إطار تلك المواسم؛ ولذلك فإنَّ الوعاظ والدعاة خاصَّة في حاجة إلى مراجعة هذه الأمور، وتحري توجيهات القرآن فيها، والنظر في المقاصد والمآلات. فلقد ألف المربون الكبار أمثال أبي حنيفة وأحمد والشافعي ومالك وجعفر الصادق ومن جاء بعدهم أن يوازنوا بين الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء، ويعلموا الناس متى يستعملون ومع من أحاديث الرجاء، ومتى يستعملون ومع من أحاديث التخويف والترهيب، ونحن بحاجة ماسَّة في أيامنا هذه إلى استعادة هذه الأصول، ومعرفتها والعناية بها.
وهذا المعنى قد فطن له كثير من علمائنا المتقدمين، واعتبروا أنَّ الأحاديث والأخبار والآثار التي تَعِدُ بالجزاء الخطير على العمل القليل أو اليسير علامة وضع لبعض تلك الأحاديث، مما جعل العلماء المتقدمين ينقسمون إلى فريقين:
فريق يرى ضرورة اختبار هذه الأحاديث والآثار والأخبار بشكل أكثر دقة؛ لأنَّها مظنَّة الدس.
وفريق ذهب إلى التساهل في أحاديث وأخبار وآثار الترغيب والترهيب، على أساس أنَّ الإنسان إذا رغب أو رهب وحانت منه عودة إلى الله (جل شأنه) ولو في مناسبة يسيرة مثل العشر الأواخر وليلة القدر فيها فذلك قد يشده مدى الحياة إلى الإخلاص والتوبة والالتزام.
ويغفل هؤلاء أنَّ الإنسان إذا لم يعرف مراتب الأعمال كما هي في كتاب الله (جل وعلا) وهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فإنَّه قد تضطرب عليه الأمور؛ فيستهتر بقيم عليا، وأعمال كبرى، وينشغل بصغائر الأعمال التي تَعِد بعض الأحاديث الضعيفة عليها بالثواب الجزيل، والأجر الوفير، فذلك اتجاه يشبه إلى حد كبير تفضيل المشركين لأنفسهم على المؤمنين بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام.
ونسي البعض عواقب تغلغل فكرة الثواب الجزيل الوفير الكثير على العمل البسيط اليسير نفسيًّا وتربويًّا، وجعل الكثيرين يتساهلون في دينهم طيلة العام، ويعتبرون أنَّهم إذا صادفوا ليلة قدر واحدة فذلك قد يغنيهم مدى الحياة عن الالتزام الذي أمروا به في كل لحظة من لحظات الحياة؛ ولذلك نرى أنَّ الذين يزورون الحرم في العشر الأواخر من رمضان ويبذلون نفائس الأموال ليكونوا في ذلك الزمن في حرم الله (جل شأنه) يشهدون الخير، صاروا يزيدون عن عدد الحجاج القادمين لآداء فريضة الحج، مع الفوارق الكبيرة بين إحياء ليلة القدر وبين أداء فريضة الحج.
إنَّ سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرب من الطراز الأول، أعده ربه لتربية البشر وتعليمهم وتبشيرهم وإنذارهم، فحين يأتي إليه الفقراء يشكون من أنَّ للأغنياء من الموارد المالية والإمكانات ما يجعلهم أكثر قدرة على التصدق ودفع الزكاة والقيام بأعمال البر، وأنَّهم سوف يسبقونهم في الدخول إلى الجنَّة أو يفضلون عليهم؛ يسارع (عليه الصلاة والسلام) ببيان بدائل يمكن لفقراء الناس أن ينافسوا بها الأغنياء، ويتفوقوا عليهم في الوصول إلى الثواب وما إلى ذلك.
وليلة القدر وفضائلها كثيرة ولا شك، ونحن لا نعيب أحدًا يتحراها أو يسعى إلى قيامها، ولكنَّنا نريد أن يتلفت الناس إلى المقصد الأساس من جعلها ليلة قدر، ولفت الأنظار إليها، ألا وهي عظمة القرآن المجيد، وأهميَّته، وضرورة الالتزام به، ومداومة قراءته طيلة العام، وعدم تجاهله، أو تناسي آياته بأي حال من الأحوال، فهي للقرآن المجيد وقدر القرآن وفضائل القرآن؛ لكيلا يهجر مسلم القرآن بأي حال من الأحوال، أو يتجاهل أحكامه، ويتناسى آياته، ويزداد تمسكًا به، فذلك هو اللائق بالإنسان المسلم، الذي شرَّفه الله بحمل أمانة القرآن، وإيصاله إلى البشريَّة كلها، والشهادة عليها بأنَّها قد تلقت القرآن وتعلمته من هذه الأمَّة: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ (الأعراف:6-7).
إنَّ ما يفعله كثير من المسلمين في هذا الشهر الكريم يندرج في إطار الاتجاهات الشكلانيَّة، منافيًا للمقاصديَّة، والتي تغطي عليها في كثير من الأحيان؛ ولذلك نجد تساهلًا كثيرًا يسود الساحة المسلمة في المقاصد لصالح الوسائل والإجراءات والأشكال، والشكلانيَّة مرض وليس دليل صحة، ونتمنى أن تلتفت الجماهير المسلمة إلى المقاصد والغايات وتدرك قيمة القرآن المجيد وأهميَّته، وكيف اختار الله له مكان النزول وزمانه، والإنسان الذي أنزل عليه، وأحاطه بكل ما يحقق له صفة الخلود، والاستمرار، ليكون كما قلنا أكثر من مرة: النبي المقيم، يهدي للتي هي أحسن، ويقود للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين.
فنتمنى أن نضع حدًا ونهاية للتديُّن الشكلي، ومعرفة الأولويَّات والمقاصد، والتفريق بين ما يساق للبشارة والنذارة في معرض التربية والتوجيه والتعليم وبين حقائق التدين، التي لا تقوم على الشكلانيَّة والمظاهر، والانصراف عن المقاصد والغايات، فذلك يتنافى ومعرفة قدر القرآن الكريم وعظمته وضرورة إعلاء شأنه على كل شأن.
نسأل الله العلي القدير أن يرينا جميعًا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.