Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

العنف والاحتقان

أ.د/ طه جابر العلواني

العنف الداخلي في داخل بلد ما أعني به: العنف الذي يجري في داخل البلد بين مقوماته المختلفة؛ يعد تعبيرًا عن احتقان لا يعرف الممارسون للعنف وسيلة للتنفيس عنه إلا استعمال العنف الذي يقابل دائمًا بعنف مضاد؛ ولذلك فإنَّ الأمم الراشدة تحاول دائمًا تنفيس الاحتقانات الداخليَّة وعدم إعطائها فرصة التراكم حتى تتحول إلى عنف.

 وقد وجدنا دولًا عظمى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا قبلها وروسيا وغيرهم إذا ما شعروا بالاحتقانات الداخلية نتيجة أي أزمة من الأزمات فكثيرًا ما ينفسون عنها بصراع مع جهة خارجيَّة؛ ليحافظوا على وحدة الداخل، ويكرسوا تلك الوحدة ويعززوها ولا يسمحون لها أن تتفكك تحت ضربات العنف أيًا كان مصدره.

 والاحتقانات الشعبيَّة في مختلف البلدان كثيرة ولها أسبابها والعوامل التي تدفع إليها؛ ولذلك نجد الدول التي أشرنا إليها تبادر إلى حروب صغيرة وافتعال أزمات خارجيَّة للتنفيس عن العنف أو تأجيله أو المساعدة في احتوائه، وتتجنب بقدر الإمكان أن يتحول العنف إلى وسيلة للتنفيس عن الاحتقانات في الداخل أو تحقيق ما يتوهم البعض  أنَّه مكاسب سياسيَّة وهو في الحقيقة لا يعد من المكاسب السياسيَّة لأي طرف من الأطراف؛ ولذلك بادر القرآن المجيد إلى أن يضع للناس عدوًا يفرِّغون عليه إن شاءوا فطرهم العدائيَّة ويتوجهون إليه بالصراع، فقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (فاطر:6). فالعداوة والبغضاء وثمار الاحتقانات تجد لها متنفسًا في معاداة عدو حقيقي لا شك في عداوته، فجاءت آيات الكتاب الكريم في سور مختلفة تحذر من هذا العدو وأحابيله، وأدواته ووسائله، وتوجه ما لدى الناس من استعدادات للعداوة باتجاهه.

ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمل على توجيه الأمَّة إلى عدو واحد، هو ذلك العدو الخارجي إبليس وجنده، والشيطان وحزبه، والتفكير الدائم في أدواته، ووسائله، واتخاذ أساليب الوقاية منها جميعًا.

 وفي حديث هام – نتمنى أن يلتفت أبناء الأمَّة إليه في سائر البقاع – أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان سائرًا ورديفه أبو ذر الغفاري – رضي الله عنه – فقال له: “يا أبا ذرٍّ أرأَيْتَ إنْ أصاب النَّاسَ جوعٌ شديدٌ حتَّى لا تستطيعَ أنْ تقومَ مِن فِراشِك إلى مسجدِك كيف تصنَعُ؟ قال: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: تعفَّفْ، قال: يا أبا ذرٍّ أرأَيْتَ إنْ أصاب النَّاسَ موتٌ شديدٌ حتَّى يكونَ البيتُ بالعبدِ كيف تصنَعُ؟ قال: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: اصبِرْ يا أبا ذرٍّ، أرأَيْتَ إنْ قتَل النَّاسُ بعضُهم بعضًا حتَّى تغرَقَ حجارةُ الزَّيتِ – موضعٌ بالمدينةِ – مِن الدِّماءِ كيف تصنَعُ؟ قال: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: اقعُدْ في بيتِك وأغلِقْ عليك بابَك، قال: أرأَيْتَ إنْ لم أترُكْ؟ قال: فَأْتِ مَن أنتَ منه فكُنْ فيهم، قال: فآخُذُ سلاحي؟ قال: إذَنْ تُشارِكَهم فيه، ولكِنْ إنْ خشِيتَ أنْ يَرُوعَك شُعاعُ السَّيفِ فأَلْقِ طرَفَ ردائِك على وجهِك يبوء بإثمِك وإثمِه”[1].

 فهذا الحديث الشريف يتجه بشكل مباشر لمواجهة هذه الحالة، فلا ينبغي أن يكون هناك عنف في داخل مجتمع ما، فالمشاكل الداخليَّة والاحتقانات الأهليَّة لابد من حلها بالحوار والتفاهم، والجدل بالتي هي أحسن، واستعمال كل الوسائل المناسبة التي وصل إليها الإنسان في عصرنا هذا في معالجة الاختلافات الداخليَّة والاحتقانات الشعبيَّة وما إليها، فذلك وحده هو الذي يحمي الشعوب من الفتن الداخليَّة، والاضطرابات الأهليَّة، والصراعات التي لن تنتهي إذا بدأت ولن تتوقف حتى تأتي على الأخضر واليابس، في أي بلد تدخله.

 وإذا كانت الاحتقانات الداخليَّة لها أسبابها، فلابد أن تكون الوسائل المتبعة لتفريغ ما يصاحبها من شحنات عاطفيَّة أمرًا واردًا وممكنًا، ولكنَّه يحتاج إلى رجال حريصين كل الحرص على أن لا يدمروا شعوبهم وبلدانهم ولا يأتون عليها من القواعد نتيجة التعصب للرأي أو للموقف، أو لتصور أحد ما بأن استجابته لرؤية الآخرين يحمل معاني الإهانة له أو التراجع أو الضعف، ولكيلا يكون ذلك الشعور مانعًا من الاعتراف بالخطأ وقبول الرأي الآخر والاستجابة لمطالب الآخرين ويمنعه كبر واستعلاءٌ على الفئات الأخرى يمنعه من محاورتهم وتفريغ ما لديهم من احتقانات والوصول إلى كلمة سواء؛ ولذلك فإنَّ الله (تبارك وتعالى) قد وصف المؤمنين وصفًا دقيقًا حين قال: ﴿.. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .. (المائدة:54)، فاستعمل كلمة الذلة وهي كلمة يأنف الناس عادة من الاتصاف بها، قال شاعرهم:

ولا يقيم على خسف يراد به ***  إلا الأذلان عِيْرُ الحي والوتد.

ومع ذلك فقد وصف الله المؤمنين الأخيار بها؛ لأنَّهم ينبغي أن يتجردوا نفسيًّا من أمراض الاستعلاء، والاستكبار والرغبة بالانتصار إلى الذات، واعتبر الله (جل شأنه) من أسباب نجاح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته العالم إلى الدخول في الإسلام والسلم أنَّه (جل شأنه) قد منحه أصحابًا وصفهم بقوله: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (الفتح:29)

وقد كتب ابن القيم كتابًا سماه (تلبيس إبليس) أوضح فيه كيف يلبس الشيطان على بعض الناس ويخدعهم عن أنفسهم، ويجعلهم في صراع ونزاع خاطئ مع من ينبغي أن يسالموه، وتسالم مع من ينبغي أن يعادوه، ولا تصاب أمَّة بمرض أشد من هذا المرض، أن تعادي أبناءها، وتأكل نفسها بنفسها، وتسالم أعداءها، فهذه حالة خطرة إن دلت على شيء فإنَّها تدل على اضطراب المفاهيم، واختلال الموازين، بحيث يصاب المرؤ بعمى ألوان يرى فيه المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والحق باطلًا، والباطل حقًا، والعدو صديقًا، والصديق عدوًا. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم في هذا الشهر المبارك أن يعين على جمع الكلمة، وتوحيد الصفوف، ومواجهة الأعداء، ومسالمة الأولياء، وأن يرينا جميعًا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلًا يرزقنا اجتنابه. إنَّه سميع مجيب.

[1] الراوي: أبو ذر المحدث: ابن حبان – المصدر: صحيح ابن حبان – الصفحة أو الرقم: 6685

خلاصة حكم المحدث: أخرجه في صحيحه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *