أ.د/ طه جابر العلواني
أهلا بالشهر الكريم الذي أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النيران، أهلا بشهر القرآن، به بدأ نزوله وبه أكتمل الدين وبه انتصر القرآن وحامل القرآن على قوى الشر والشرك والانحراف والتزييف في العالم، به عاد الحرم لله (جلّ شأنه) فلم يعد يرفع فيه اسم مع اسمه ولا يعبد شيطان ولا يسجد أحد لصنم، به بنيت الأمة الوسط الخيرة الشاهدة على الناس، وبه عرفت البشرية القيم العليا الحاكمة والمقاصد القرآنية المهيمنة والأخلاق القرآنية والعمران القرآني والتوحيد الخالص والتزكية النقيّة واستبدال وسائل العنف والصراع بدعوة إلى الله (بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي احسن) به طويت صفحة خرق العادات لتبدأ صفحة إقرار السنن وإشاعة القوانين الإلهية، به انتصر الحق على الباطل والخير على الشر والعدل على الظلم والحرية على الاستعباد والاستلاب، شهر الحق الذي به قامت السماوات والأرض ﴿َربَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾ (آل عمران:191)، ﴿ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (الدخان:39).
يأتي الشهر الكريم هذه المرة وشياطين العنف والقتل وسفك الدماء والتدمير والتخريب مطلقة تمارس أقصى أنواع العنف وأفتك أساليب الصراع ضد بعضهم بعضا، فبعد تدمير أفغانستان وتدمير العراق والصومال وسوريا واستلاب فلسطين، وتدمير اليمن وليبيا، وإثارة كل أنواع الفتن والصراع بين الذين اهتدوا بالقرآن فترة ثم هجروه واهتدوا بسّنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برهة ثم غيروا وساروا خلف كل جبار عنيد وشيطان مريد يرفعونهم كما كان أجدادهم من قبل يرفعون الأصنام.
رَفَعَتْكَ كَالصَّنَمِ المؤلّهِ أُمَّةٌ *** لَمْ تَسْلُ بَعْد عِبَادَةَ الأَصْنَامِ
سوف يمسك الكثيرون عن الطعام الحلال والشراب الحلال في غير رمضان وهم يلغون في الدماء الحرام والأعراض المحترمة ويدمرون الطفولة وينتهكون الأنوثة ويطيحون بالأخلاق كلها باسم المرجعية: مرجعية الشيطان أو مرجعية السلطان أو مرجعية الفقيه المتشيطن، يظلنا رمضان في هذا العام ونحن نقلب أطرافنا في السماء والأرض هل نجد بقعة مما كان يسمى بدار السلام آمنة هنيّة رخية؟ أنجد بقعة من دار الإسلام يسودها الصفاء والنقاء والسلام والإسلام والإيمان؟ لا نجد شيء من ذلك. بل نجد الدمار في كل مكان والخراب في كل صقع، والخوف في كل دار والتهديد مع كل نفس يتنفسه الناس، لم أسمع صوتا واحدًا يدعو إلى إيقاف القتال أو الصوم عن المنازعات ولو خلال الشهر الكريم فقط. لم نسمع صوتا واحدًا يدعو إلى إيقاف العنف والدم والظلم ولو في هذه الأيام المعدودات لم نر توجهًا لاحترام الشهر الكريم وجعله شهر عبادة ومراجعة وتدبر للقرآن الكريم لعل أنواره تضئ الجوانب المظلمة من القلوب وتطهر الأنفس من الأحقاد وتزيل منها الكراهية: كراهية الطائفيّة والحزبيّة وتدفعها للرغبة فيما ما عند الله وهو خير وأبقى، ولا ندري ما إذا كنا سنسمع أصواتًا رشيدة راشدة اليوم أو غدًا تنادي بشيء مما ذكرناه وتدعوا إليه. إن الله قد شرع لنا الأشهر الحرم وأمرنا بصيام شهر رمضان وأسس للحرم وبوأ إبراهيم مكان البيت لعل ذلك كله يذكر بحرمة الدم وكرامة الإنسان فالإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيانه والإنسان موضع كرامة الله ملعون من انتهك هذه الكرامة وتجرأ عليها واستبد بها.
ماذا لو توقف المسلمون خلال هذا الشهر الكريم عن سفك دماء أنفسهم وهتك أعراضهم واستباحة بعضهم لأبشار بعض وسلب بعضهم لثروات البعض إنهم آنذاك يقتربون من إعطاء شهر القرآن حقه إذا أخذوا الدرس واستفادوا العبر وتوقفوا عن الخوض في الفتن وإلا فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش وكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب.
إن من يعين على قتل مؤمن ولو بشق كلمة يكتب بين عينيه “آيس من رحمة الله” لا يقبل منه صرف ولا عدل ولا تقبل له توبة.
إنني أرجو أن يوقف المهنئون بشهر رمضان تهانيهم ويستبدلوها بالدعوة إلى تذكر أخوة الإسلام والتذكير بوحدة الأمة وبأن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وأن الكراهية والبغضاء والقتل وسفك الدماء وحزّ الرقاب واستلاب الأموال وإخافة الآمنين لا يمكن أن تأتي بخير فالشر شر ولا يمكن أن يأتي الشر بخير أبدا.
فهل أنتم منتهون؟ .. وإنا لله وإنا إليه راجعون.