أ.د / طه جابر العلوانى
إنَّ الديمقراطيَّة بتطبيقاتها المختلفة فى المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة قد أضرت بإمكانيَّات إصلاح النظم السياسيَّة فى تلك المجتمعات، وأوضحت التجارب المختلفة لها أنَّها “لا تشكل حلًا” ولا تأتى بالخلاص لتلك المجتمعات، وأنَّ مفهوم “الديمقراطيَّة” بحد ذاته مفهوم جامد لا يتضمن حكمًا “قيميًّا” بحيث يجعلها ذلك المضمون “هدفًا” لكل الشعوب.
ليست المشكلة فى أن تتبنى فئاتنا السياسيَّة “الديمقراطيَّة” أو ترفضها، ولا فى من يقف مع الديمقراطيَّة أو ضدها، بل أن نفهم جميعًا أيَّة ديمقراطيَّة، ولمن، ولصالح أىّ الفئآت المجتمعيَّة ستكون، وفى أى اتجاه ستسير، ولماذا يتبنَّاها من يتبنَّاها، ولماذا يرفضها من يرفضها؟ لماذا وكيف؟؟ وما مآلها وكيف ستكون أحوال مجتمعاتنا بها وبدونها ؟!.
إنَّ “الديمقراطيَّة” – فيما نعلم– لا تحمل بحد ذاتها أىّ محتوى معرفيّ أو “علميّ”، ولا تعد أجوبة جاهزة تلقائيَّة عن مشاكل أمَّتنا، فهى لا تحدد أهدافًا، ولا أولويَّات، ولا طرق عمل، ولا تصنع تحولات من حالة إلى أخرى، وقصارى ما تقدمه نظام إجرائيّ يستعمل بطرق مختلفة آلياته ويحرك دفته من يتحكمون بها. وخطابها ليس كما يصوره البعض خطابًا “سحريًّا”، أو كما يكرسه الداعون له على أنَّه “نظريَّة كونيَّة” صالحة لكل زمان ومكان وإنسان. إنَّهم بذلك يغضون الطرف عن أصول المشكلات ومنابع الأزمات.
إنَّ “الديمقراطيَّة” لا تستطيع العمل فى ظل التقليد والتبعيَّة بكل أشكالها السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة والعسكريَّة والتقنيَّة والغذائيَّة. ولا يمكن “للديمقراطيَّة” أن تحقق ما يرتضيه البعض أو ينتظرونه منها إذا جرى فرضها من مواقع الغلبة والتمكن.
كما أنَّ الديمقراطيَّة تحتاج إذا ربطنا بين فلسفتها وهياكلها الإجرائيَّة فإنَّها تحتاج إلى أن تهيئ لها الليبراليَّة والعلمانيَّة الأرضيَّة المناسبة لتطبيقها، ذلك لأنَّ الديمقراطيَّة إذا أخذت على حقيقتها سواء أكانت ديمقراطيَّة أثينا أم روما أم سواهما فإنَّها في حاجة إلى ثقافة وتكوين ليبرالي علماني يجعل من تمارس عليهم الديمقراطيَّة أو فيهم قادرين على توظيف هياكلها الإجرائيَّة من انتخابات واستفتاءات وصناديق اقتراع بشكل فاعل ومؤثر، أمَّا إذا فصلت عن فلسفتها وبقيت مجرد إجراءات صندوق اقتراع وفرز أصوات فإنَّها لن تستطيع العمل منبتَّة عن حقيقتها وفلسفتها، كما لن تستطيع العمل في بيئة لا تحمل ثقافتها بشكل تام، فإذا حاول المحاولون فرضها في إطارها الإجرائي فإنَّها تتحول إلى مجرد هياكل وأشكال ميتة قابلة لأن توظف بأشكال شتى وبحسب أهداف ورغبات من يوظفها، وقد تتحول إلى وسيلة يبرر بها أكثر المستبدين استبدادًا استبدادهم في تزييف إرادة الجماهير والاعتداء على حقوق الشعوب.
ولقائل أن يقول: إنَّ أشياء كثيرة يمكن أن تستغل وتصرف عن وجهها الحقيقي بما في ذلك الدين، فالنوايا السيئة، والرغبة في الانحراف يمكن أن تنحرف بأي شيء وتخرجه عن طبيعته، وتسيئ استخدامه، وعلى ذلك فإنَّ الديمقراطيَّة مثلها مثل غيرها في هذا الأمر، وهذا صحيح، ولكن الديمقراطيَّة يفترض فيها أنّها وضعت ضمانات كافية لمواجهة من يريدون استغلالها، والانحراف بها، وتعتبر نازحة في البلدان التي جمعت بين حقيقة الديمقراطيَّة وتوعية الشعب بها وبوسائلها، وتتوازن السلطات والرقابة الشعبيَّة والثقافة الديمقراطيَّة والوعي بالحق والواجب من قبل المواطنين، كل أولئك مجتمعه تشكِّل ضمانات لا يسهل تجاوزها كلها، لكن ديمقراطيَّات العالم الثالث كانت كثيرًا ما تولد كرهًا، وتحمل كرهًا، وتوضع كرهًا، وتفتقر إلى الحقائق لا إلى الأشكال، فالأشكال سهلة على كل من يريد القيام بها، أمَّا حقائق الأشياء فهي التي يحتاجها الناس وتشكِّل قوام نظمهم وحياتهم.
إنَّ الديمقراطيَّة في بلد مثل العراق وكثير من البلدان العربيَّة ذات الإثنيَّات والعرقيَّات والمذاهب والأديان المختلفة في مثل هذه الظروف التي نحياها وفي هذا المرحلة من تاريخ البشريَّة، قد تشكِّل حلًا للتخلُّص من العنف بأشكاله، عنف السلطة، وعنف معارضيها أيًا كانوا، بشرط أن تؤخذ حقيقة وروحًا وإجراءات، أمَّا إذا أخذت الإجراءات وجرى تجاهل الحقائق فإنَّ أي ديكتاتور يستطيع أن يكرِّس استبداده ويعيد انتخاب نفسه في ظل ما يسميه ديمقراطيَّة، وهي شيء آخر، فصناديق الاقتراع سواء أكانت بلاستيكيَّة أم حديديَّة يمكن لمن شاء أن يفرغها ويملأها كما يحب، بحيث يتكرر انتخابه عدة مرات، حدث ذلك في عهد صدام، وحدث في العهد الملكي، وما يزال يحدث في عهد حزب الدعوة الشيعي الذي كرر رئاسة المالكي لثلاث مرات لحد الآن.
وأمريكا التي تعتبر نفسها الحارس العالمي للديمقراطيَّة باركت كل تلك الانتخابات الزائفة وأيدتها، وزعمت أنَّها قد تفضلت على العراقيين بنمحهم ديمقراطيَّة إعادة إنتاج المالكي بديلًا لديمقراطيَّة إعادة إنتاج صدام ومن سبقوه، ورضيت أمريكا لنفسها أن تكون شاهد زور على ديمقراطيَّة زائفة لو عرضتها على الشعب الأمريكي لرجمها بكل ما يمكن أن يرجمها به، لكن حارس الديمقراطيَّة العالمي أراد أن يدعي لنفسه النجاح الذي لم يحقق شيء منه في إبدال نظام ديكتاتوري بما سماه نظاما ديمقراطي، والديمقراطيَّة منه براء، ولو أن حارس الديمقراطيَّة أدرك أنَّ سياسة الوجهين: وجه للداخل تتعامل مع الحقائق ويرتعد على الشكليَّات، ووجه يصدره للخارج ليدمر به بلدان مثل العراق وأفغانستان، وأمثالهما، هو وضع لا أخلاقي، يرفضه الآباء المؤسِّسون للولايات المتحدة، وتأباها سائر القيم التي نادوا بها، وقامت الثورة الأمريكيَّة على أساس منها، فليت هناك نظام أخلاقي واحد لا يقبل النفاق الذي يمارسه حارس الديمقراطيَّة المعاصر، الذي عودنا على تأييد عتاة المستبدين، وخداع جماهيرنا بأنَّهم قد فتحوا الباب للديمقراطيَّة باحتلالهم العراق، وتفتيتهم دولته، وتدمير البنية التحتيَّة له، وإعادته إلى ما قبل القرن التاسع عشر، وتبديد ثروته ونهبها، ثم يخرج القادة ليقولوا إنَّهم قد حرروا هذه البلدان من الديكتاتوريَّة، وأدخلوا إليها تلك الديمقراطيَّة الزائفة.
فتأمل.