أ.د/ طه جابر العلواني
في كل يوم، بل في كل لحظة من لحظات الحياة نفقد أناس نحبهم، وقد نستقبل مواليد نفرح بهم، تلك هي سنة الحياة:
فالموت باب وكل الناس داخله *** فيا ليت شعري بعد الباب ما الدار.
عرفت الشيخ أبا المثنى محمد الحانوتي للمرة الأولى بطريق والده -يرحمه الله، حيث كنت طالبًا عند الشيخ أمجد الزهاوي -يرحمه الله-
أدرس عليه في مدرسته في منطقة السراي، المسمى بـ “السليمانيَّة”، وكان الشيخ يتردد على مدرستنا زائرًا يلتمس من علم الشيخ الزهاوي ما يستطيع، وكان يرتدي ملابس رجال العلم في فلسطين، كان -يرحمه الله- يحب مذاكرة العلم، والمناقشة فيه إلى حد الجدل، وكنا نستفيد مما يثيره من أسئلة وتساؤلات، وذات يوم رأيت معه شابًا لطيفًا قدمه لي على أنَّه ولده محمد، وكنا نناديه في ذلك الوقت وبعد تعريف والده به الشيخ محمد علي حامد الحانوتي، ووجدت في الولد سر أبيه، فهو يحب الجدل، ويستهويه أن يطرح المسائل العويصة في الفقه والحديث، ويغلب أن يكون ناقدًا للفقهاء، مسلمًا لأهل الحديث.
وذات يوم جاءني محمد ومعه زميل آخر له، واقترح عليَّ زيارة الشيخ عبد الكريم الصاعقة، وهو إمام وخطيب كان في مسجد قنبر علي في بغداد، وذهبنا لزيارته فوجدته شيخًا متقدمًا في السن، لكنَّه قوي البنية، إذا رأيته لا تخطئ أن تقول: إنَّ الرجل كان رياضيًّا في شبابه أو بداية حياته، ولديه مكتبة حافلة، ودون مقدمات قدمني الشيخ محمد الحانوتي للشيخ الصاعقة على أنَّني طالب علم منفتح وأميل لفقه السلف، وإن كنت متمذهبًا، وبدأ الشيخ الصاعقة الحديث فإذا به صاعقة فعلًا، فلا يذكر أمامه عالم لا قديم ولا حديث إلا ويوجه إليه صواعق من نار، ويخالط حديثه نقد مر، لا يخلو من سباب لكثير من العلماء، ويخص الإمام أبا حنيفة -رحمه الله- بكثير من تلك المكرمات.
فدهشت بادئ الأمر ولم أصدق متى أخرج من بين يديه، وحين خرجنا قلت للأخ أبي المثنى -يرحمه الله: ماذا فعلت بي؟ ولم جئت بي إلى هذا الرجل الذي كأنَّه لا يرى إمامًا في الدنيا غير نفسه؟ قال: هو هكذا كانت لديه جريدة تسمى الصاعقة وإليها ينسب، وكلها من هذا الوزن، فحين ينتقد عالمـًا لا يكتفي بنقد فقهه وأقواله بل يتجاوزها إلى نقذ ذاته وشخصيَّته، وبعد أن هدأ روعي قلت له: سأعتبر هذا اللقاء الأول لقاء صدمة، وامتصاص لصواعق الصاعقة، وسأذهب إليه ثانية لعلي استطيع أن أرى فيه ما يمكن أن يفيدني، وتوثقت العلاقة بعد ذلك بيني وبين الصاعقة -يرحمه الله، وأعارني بعض كتب ابن تيمية وآخرين وكان شديد الحرص على الكتاب، فإذا تأخرت في إعادته إليه جاءني سيرًا على الأقدام من قنبر علي إلى الكرادة الشرقيَّة وهي مسافة طويلة ليطلب مني إعادة الكتاب إليه، ولا يرجع إلا بعد أن يأخذه، ويقول: تعال فاقرأه عندي أو استعره لفترة أخرى.
كان الرجل سلفيًّا شديد التعصب لسلفيَّته، يرفض التمذهب، ويرفض فقه المذاهب، ويرى أنَّ فقه ابن تيمية كاف للأمَّة لو أحسنت فهمه، وهو يوص بأن تقرأ كتب ابن حزم الظاهري خاصَّة: “إحكام الأحكام، والمحلى”. وحين نسأله يقول: إذا استوعبت “الإحكام والمحلى” لابن حزم وكتب ابن تيمية -وكان المنشور منها آنذاك قليلًا-فإنَّ ذلك يكفيك ولا تحتاج إلى أيَّة دراسات أصوليَّة أو فقهيَّة ثانية.
وبدا الرجل يألفني، ويتحدث عما عاناه من علماء المذاهب، وكيف كان البعض يرسل إليه بعض تلامذته؛ ليردوا عليه ويشتموه في مجالس درسه، ووجدت أنَّ ذلك قد أثر في سلوك الرجل وطريقة تعامله مع الآخرين، لم يعد الشيخ محمد الحانوتي في حاجة لأن يأتي إليَّ ليصحبني لزيارة عبد الكريم الصاعقة؛ لأنِّي كنت قد اعتدت أن أذهب إليه، واستمتع بأن أرى نسخة من أهل العلم مغايرة تمامًا لما كنت أراه في شيخي الزهاوي والقيسي والقزلجي والآلوسي وغيرهم من علماء بغداد. ولم أكن أصرِّح لأي من هؤلاء بأنَّني أزوره أو أستمع إليه، وبقيت العلاقة بيني وبين أبي المثنى -يرحمه الله- وثيقة إلى أن سافر إلى الكويت، وانقطعت أخباره إلى أن التقينا في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، كان مبتعثًا للدعوة في أمريكا من وزارة أوقاف الكويت، ووجدت الرجل كما كان في بغداد لم يتغير منه شيء، فمحلى ابن حزم وفتاوى ابن تيمية أهم مصادره، في الفتوى وفي التعليم والتدريس، لكن العنف الذي كان يظهر عليه وهو يجادل في بعض المسائل بدا يأخذ طابع الهدوء أكثر في البيئة الأمريكيَّة، وكان قريبًا مني في واشنطن وفي نيوجرسي، فكنت أدعوه وآنس بحديثه، بل واستنصر به، فإذا جاء أولئك المقلدون وتشبثوا بشيء وضعت الحانوتي بوجههم، وصدَّرته لهم، وهو يعرف كيف يسفه آراءهم ويظهر جهلهم في فتاواهم ويجعلهم يندمون على اليوم الذي جاؤوا فيه، وكنت أقف منه موقف المشجع تارة، والمهدئ تارة أخرى، ولكن لم يكن يتأثر كثيرًا بذلك.
فأقول له مداعبًا: تعلمت سلاطة اللسان من ابن حزم في القديم، وعبد الكريم الصاعقة في الحديث، فجمعت بين حدَّة الطبع الحزمي والصاعقي، لكنَّه كان غيورًا على دينه حريصًا على أمَّته يتألم كثيرًا لجهل الجاهلين وعجز العاجزين، لا يدعى لشيء فيه فائدة للمجتمع المسلم في أمريكا إلا ويسارع إليه، كان ينفر من الظهور والاشتهار، وصدارة المجالس. ومن أواخر ما كلفته به حين ضممته إلى المجلس الفقهي لأمريكا الشماليَّة أثناء رئاستي له أن يحمل لقب مفتي واشنطن، فكان يحاول أن يقنعني أن لا داعي لذلك، وقلت له: أرجوك أن توافق على حمل هذا اللقب؛ لأنَّه سيكون له شأن كبير، ونضحك وننهي النقاش.
وحين قررت أمريكا غزو أفغانستان وطلب الجنود الأمريكان وكان عددهم عشرة آلاف من المسلمين منتشرين في مختلف أسلحة القوات المسلحة الأمريكيَّة فتوى بشأن المشاركة في الحرب، خفت خوفًا شديدًا من أن أخوض في تلك الفتوى وأحلتها إلى المفتين والمجامع الفقهيَّة في العالم الإسلامي، وجاءت فتوى الشيخ القرضاوي ومعه هيثم الخياط وطارق البشري ومحمد سليم العوا وفهمي هويدي وبشير نافع، وكانت الفتوى تقول: بأنَّه يجب على الأمريكان المسلمين القتال مع القوات الأمريكيَّة، دفاعًا عن مصالح أمريكا والشعب الأمريكي والنظام الأمريكي، قبل أن تصلني الفتوى كان الأستاذ فهمي هويدي قد قام بنشرها في جريدة الشرق الأوسط، وقام بشير نافع بترجمتها ونشرها في الجرديان البريطانيَّة، اتصلت بالدكتور العوا وقلت له: أراكم قد بالغتم في هذه الفتوى، وليتكم بدلًا منها نصحتم المسلمين بأن يبتعدوا عن القتال، لئلا يقعوا تحت طائلة قتال المسلم للمسلم، وأظن أنَّ القانون الأمريكي يسمح لمن يجد حرجًا في ضميره أن يطلب نقله إلى خدمات ووحدات غير مقاتلة، أو يستقيل إن شاء، لكن الفتوى بجواز قتال المسلم تحت راية غير إسلاميَّة لشعوب مسلمة أمر في غاية الخطورة، وسيكون له ما بعده، قال: هذه فرصة نثبت للغرب فيها أنَّ المسلم ليس لديه ازدواجية في الولاء، وأنَّه إذا عاهد وفى، وما دام المواطن المسلم الأمريكي قد أقسم يمين الولاء فيجب عليه الوفاء، وهذه سوف تطمئن الغرب إلى الجاليات المسلمة وتجعلها أقدر على أن تنخرط مع تلك المجتمعات في شئونها وشجونها وتطمئن إليها، وذلك سيكون انتصارا للدعوة.
لم أقتنع وجادلت بكل ما استطيع في الموضوع، ولكن “سبق السيف العزل”، وجاءت الفتوى فأرسلناها إلى الإمام في القوات المسلحة عبد الرشيد؛ لأنَّه كان السؤال قد وجه إلينا باسمه، لكن اللغط لم ينقطع، وخرج من يدعي أنَّ القرضاوي قد ضلل، وأنَّ من ضلله واستدرجه هو طه جابر العلواني، وذلك لأنَّ السؤال كان يحمل توقيعي، وتكلم الناس فيَّ وأخذوا وعادوا وشتموا ما شاء لهم الشتم، فأنا رجل فرد أنتمي إلى الأمَّة كلها لا إلى فريق منها ولا فصيل، ودُعي القرضاوي للتنصل من الفتوى والتوبة عنها، وقد صرح القرضاوي تصريحًا ما زلت أقدره له، نفى بذلك التصريح عني سوء النية أو العمالة أو أي وصف سيئ آخر رماني به المتنطعون، وأكد أنَّه لا يعرف عني إلا أنَّني عالم من علماء الأمَّة قادر على الفتوى في هذه المسألة وغيرها، ولكن لخطورة المسألة فقد اعتبرتها من فتاوى الأمَّة التي لا ينبغي لعالم فذ أو مجتهد فرد أن يستبد بالفتوى فيها.
وأمام الضغوط الكثيرة التي نجمت عن ذلك عقدنا مؤتمرًا صحفيًّا في أهم مركز إعلامي في واشنطن، وطلبت من الشيخ الحانوتي -يرحمه الله- أن يقدم لذلك الحشد الهائل من الإعلاميين الأمريكان الفتاوى التي وردت إلينا، وأن يعلن بأنَّ رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشماليَّة يخير الناس بين أن يأخذوا بتلك الفتاوى التي صدرت أو أن يعرضوا عنها، وأنَّه شخصيًّا ومجلس الفقه في “فسحة النظر” -وهو مصطلح يتعلق بالاجتهاد يعني أنَّ المجتهد ما زال يدرس المسألة ولم يصل بها إلى رأي أو قرار- وفسحة النظر هذه قد تطول وقد تقصر، قد تمتد شهورًا أو سنين، فلا يطالبنا أحد ولا يضغط علينا لنقول قولًا لم يأخذ حظه من البحث والنظر فإنَّ المسألة معقدة ومركبة، وفيها جوانب عديدة كل منها يستحق بحثًا مستقلًا، فمن شاء أن يأخذ فتاوى المفتين في المشرق أو المغرب فليأخذ أو ليدع أمَّا نحن فلا رأي جاهز لنا في هذه المسألة، وبإنجليزيَّته العزبة استطاع الشيخ محمد أن يقرأ لهم فتوى الشيخ القرضاوي، وأن يبين لهم توقفي في هذا الموضوع، ثم قال: أنا وإن كنت أعمل مع الدكتور طه في المجلس الفقهي لكنَّني أتبنى فتوى الشيخ القرضاوي ومن معه وآخذ بها، وانتهى المؤتمر.
ولم تمض أيام إلا ودعتني البنتاجون لحضور اجتماع، مع رؤساء فروع الوعاظ والمرشدين في القوات المسلحة الأمريكيَّة، وذهبت بالموعد المحدد وجلست إلى الجنرالات الثلاثة الذين يقودون هذه الطائفة من طوائف القوات المسلحة الأمريكيَّة، فقال أقدمهم، وكان برتبة جنرال بنجمتين: نحن نعلم أنَّك رجل معتدل، وجيد، ومواطن أمريكي نحترمك، ونحترم علمك، لكنَّنا نود أن نعلم أنَّ القوات المسلحة الأمريكيَّة لا مرجعيَّة لها إلا القيادة الأمريكيَّة، ولا تسمح بأي حال من الأحوال بأن تكون للجندي الأمريكي قيادة من خارج القوات المسلحة الأمريكيَّة، وإحالتك ذلك السؤال الذي وجه إليك من قبل الجنود المسلمين إلى المفتين في العالم الإسلامي خطأ، كان يمكن أن يعد خيانة عظمى لولا معرفتنا بإخلاصك ونيتك الحسنة، وأنَّك لم تكن تقصد شرًا بما فعلت،؛ ولذلك فإنَّنا نبلغك رسيمًا بأنَّ أي سؤال يأتي إليكم أو إلى أي إمام أو عضو في المجالس الفقهيَّة لأمريكا الشماليَّة لا يجوز لكم أن تعطوا به رأيًا أو تصدروا به فتوى قبل الرجوع إلينا، فلابد من إحالته إلينا ونحن نقرر ما نرسله إليكم وما لا نرسله، فإنَّ جيش الولايات المتحدة جيش من المتطوعين، ونحن لم نجبر مسلمًا ولا غير مسلم على الانضمام إلى القوات المسلحة الأمريكيَّة، بل يأتينا الجند متطوعين باختيارهم، فإذا كان العمل في القوات المسلحة لا ينسجم مع دينه أو تدينه فله أن يتركها ويبتعد عنها، أمَّا بعد أن يوقع باختياره الاتفاق بينه وبين القوات المسلحة على أن ينتمي إليها فعليه أن يسمع ويطيع لقادته الميدانيين ولا يسمح له بمخالفة أي أمر يصدر إليه، سواء أكان ضد المحاربين لدينه أو ضد الموالين له، ولعلك تذكر أنَّ قواتنا المسلحة الأمريكيَّة وغالبيتها مسيحيَّة قاتلت الصرب المسيحيين لصالح رفع الاضطهاد عن المسلمين، ومع ذلك فنحن دولة علمانيَّة، لا تبني قتالها ولا سلمها ولا حربها على المواقف الدينيَّة.
شكرتهم وقلت لهم: إنَّ الفتوى التي جاءت تحمل توقيع الشيخ القرضاوي فتوى لها قيمتها وأهميتها، فالرجل كان يريد أن يؤكد على ضرورة اندماج المسلمين مع مجتمعاتهم الجديدة، وأن يعيشوا على أرضها كأنَّهم أبناءها، وهذا يخدم فكرة التداخل في هذه المجتمعات، وكان ينبغي أن يشكر الرجل على هذه الفتوى، فهي موقف يحمد له، من وجهة نظركم كما ينبغي أن يقال، قال: ولكن نسيت أنَّ مجرد الإحالة على الشيخ القرضاوي أو غيره أو الأزهر كأنَّك تريد أن تقول للجندي الأمريكي لك مرجعيَّة أخرى يجب عليك الرجوع إليها غير سلسلة المراجع العسكريَّة، التي هو ملزم بالرجوع إليها والالتزام بأوامرها؛ ولذلك فنرجو أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تطلب فتوى من خارج المراجع العسكريَّة للدخول في سلم أو في قتال، فالقوات المسلحة الأمريكيَّة مرجعها قادتها فقط، وطبعًا في هذه المرة نعتبر الأمر منتهيًا إذا التزمت بعدم إحالة أي استفتاء من هذا النوع إلى جهات خارجيَّة، وتحدثت إلى الشيخ القرضاوي، وأخبرته بذلك، وتحدثت إلى المجلس الفقهي، ومنهم الشيخ الحانوتي، وأخبرتهم بما حدث، وقلت: يا سبحان الله هؤلاء يبلغ تصلبهم هذا الحد في حين ظن البعض منا أنَّه إذا جاءت الفتوى بشيء من التساهل فسيفرحون بها، ويشكرون من قالها.
كان الحانوتي -يرحمه الله- صريحًا لا يخفي ما لديه، يحبه الذين يقدرون فيه جرأته وشجاعته وصراحته، وقد يميل عنه أولئك الذين لا يحتملون المواقف البطوليَّة ولا يقدرون الرجولة حق قدرها.
رحم الله الشيخ الحانوتي وغفر لنا وله، وأمطر عليه شآبيب رحمته، وعوض الجالية المسلمة عنه خيرًا، وكذلك أهله وذويه، ورحمنا إذا ما صرنا إلى ما صار إليه.