Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الأسرة بين الإسلام والغرب

أ.د. طه العلواني

من أهم المداخل للحوار مع الغرب مدخل الأسرة، وهو في الوقت نفسه يعد أخطر المداخل. فالغرب الدينيّ والثقافيّ يرى في الإسلام وتراثه منبعًا لقيم بِكر، يمكن له أن يعيد تصنيعها أو تصنيع بعضها لإعادة بناء الأسرة.

فالغرب الثقافي الدينيّ يدرك أنَّ الفكر الليبرالي -بكل ظلاله- قد كرَّس “مركزيَّة الفرد”، ونشأت أجيال ترى الفرد محور كل شيء وأساسه ومصدره ومنطلقه وغايته.

وإذا كانت الديمقراطيَّة قد تمكنت من تهذيب النزعات الفرديَّة، ووضعها في إطارها الإيجابي، ولو مع بعض التحفظات في الجانب السياسيّ فإنَّ الفرديَّة في ميدان الأسرة لم توجَد لها آليَّات ضابطة بعد، وحين استدعى الّلاهوت ليقدم شيئًا في هذا المجال بدا عاجزًا إلَّا في مجال الوعظ.

إذا كانت الأسرة عندنا تمثِّل الوحدة الصغرى في المجتمع فإنَّ الإسلام قد علَّمنا أن تكون الوحدة الصغرى هي الأسرة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء:1). وكل التشريعات التي وردت في المجتمع جعلت من الأسرة نقطة ارتكاز لبناء المجتمع، فلا مجتمع ولا أمَّة يمكن أن تتجاوز الأسرة إلى غيرها، وقد علَّمنا القرآن المجيد أنَّ الجزاء فردي، وأنَّ العمل لابد أن يكون جماعي، ومن هنا تقلبت الظروف في التاريخ وفي الحاضر في المسلمين، وخضعوا لاحتلال واستقلال من حروب صليبيَّة وتتاريَّة واستعماريَّة معاصرة، وكانت الأسرة على الدوام تعد الملجأ الأساس للأمَّة ونقطة الارتكاز لها في سائر الأحوال، ونستطيع القول دون تردد بأنَّ هذه الأمَّة لولا متانة البناء القرآني للأسرة لتفككت منذ زمن بعيد، لكن الأسرة كانت حجر الزاوية والوسيلة الأساس للمحافظة على كيان الأمَّة، والإبقاء عليها.

وإذا حللنا معارك استقلال الأمَّة في الماضي وفي الحاضر نجد أنَّ أقوى الدعائم التي كانت ترتكز إليها عمليَّات التحرر والمقاومة وإعادة البناء بعد الانهدام أو التفكك هي الأسرة، لكن هذه الأسرة قد أصيبت إصابات خطيرة في بعض مراحل التاريخ، خاصَّة تاريخ التخلُّف والتراجع، وتأثرت بكثير من الـﭬيروسات التي أدت بها إلى ما هي فيه في أيامنا هذه.

لقد بدأ تفكك الأسرة في الغرب يوم سادت الفرديَّة، واعتبر الفرد هو الوحدة الصغرى وحجر الزاوية في البناء الاجتماعي، وصارت الأسرة بمثابة الأمر الطارئ، خاصَّة لدى الفئآت التي أضعفت العلمانيَّة والليبراليَّة تدينها، فلم يعد للتدين تأثير على سلوكها وتصرفاتها، فغيرت مجموعة مفاهيم جعلت تبعًا للفرديَّة من اللذة محورها، وأطلقت كلمة حب على الممارسة الإنسانيَّة؛ لتبدأ سلسلة ابتذال المفاهيم المتعلقة بالأسرة، وألحقت عمليَّة اللذة والحب في إطار الرغبات الفرديَّة، فللفرد أن يحصل على نصيبه من اللذة بالشكل الذي يناسبه، المهم أن يكون هناك تراض بين الرجل والمرأة، وهذا التراضي صار بديلًا إلى حد ما عن مبدأ المسئوليَّة والالتزام والتعاقد، لذلك نجد القرآن المجيد يؤكد دائمًا على الميثاق الغليظ، ﴿.. وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء:21)؛ ليحافظ على مفهوم الميثاقيَّة والالتزام، ونجد كلمة حدود في القرآن قد وردت أربعة عشر مرة في اثنتي عشرة مرة منها وردت في قضايا بناء الأسرة والنكاح والمحافظة على ذلك الميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة، ورتب القرآن المجيد على ذلك قضايا كثيرة، سنتعرض لبعضها.

 أمَّا الأسرة في الغرب في الإطار الذي ذكرناه فقد بدأت بالتفكك من الالتزام والمسئوليَّة، واعتبار الالتزم والمسئوليَّة قيدًا شديدًا على اللذة ومبدأها، والحريَّة الفرديَّة ومركزيَّة الإنسان والتراضي، وحق الإنسان في أن يحصل على اللذة ما دام لم يجبر أحدًا، ولم يفرض إرادته على أحد، بل تم ذلك في إطار من التراضي. فبدأت بتقليص عمليَّة الاهتمام بالإنجاب وتحمل مسئوليَّتها كنزعات الجاهليَّة القديمة، ثم مسئوليَّة الإنفاق بعد كل التطورات الاقتصاديَّة التي جرت، والثورات الصناعيَّة وما إليها، ودخول المرأة ميادين العمل، فلم يعد هناك اعتماد في الإنفاق على المرأة على مجهود الرجل، بل صارت مثله تعمل في خارج البيت وتعمل في داخله، وتشعر بنوازع الاستقلال والفرديَّة، تشتد عندها بدرجة تجعلها في بعض الأحيان تخاف على جمالها من الحمل والإنجاب، وما يترتب على ذلك؛ خوفًا على جمالها أو قوامها، فضعفت عواطف الأمومة، وتراجعت عن القضايا الخاصَّة بجسد المرأة وجمالها، فبدأ البعض يفكر بالتبني واستئجار الأرحام وما إلى ذلك، وسادت الرغبات الفرديَّة المتحللة من القيود، وظهرت مفاهيم (Boy friend) لتحل محل الزوج، و(Girl friend) لتحل محل الزوجة.

 واستمرت الكرة في التدحرج إلى أن وجدنا أنفسنا اليوم نشهد حوالي ستة أنواع مما يسمى بأسرة: فهناك الأسرة التقليديَّة كما يطلق عليها، وهي التي تتألف من زوج وزوجة، بينهما التزام. وإلى جانبها أسرة تتألف من شاذين جنسيًّا، وقبلت لحد الآن ولايتان أمريكيَّتان بهذا النوع من الزواج واعترفت به، واعتبرت شخصيَّتهما القانونيَّة شخصيَّة زوجيَّة. وكذلك إذا اتفقت سحاقيَّتان على أن يعيشا معًا، وقد وافق القانون بهاتين الولايتين على توحيد ذمتهما الماليَّة، واعتبار هاتين الشاذتين أسرة كذلك. ثم برز نوع آخر وهو أن يتبنى رجل لقيطًا أو يتيمًا فيشكِّل معه أسرة. وكذلك الحال بالمرأة التي تتبنى ابنًا لغيرها وتكوِّن معه أسرة. وكذلك حالة (Boy friend) و (Girl friend). فصار لدينا ستة أنواع، وكلها لها سوابق في التاريخ الإنساني وفي جاهليَّة العرب، وبقيَّة الشعوب.

وبعد كل ذلك التفكك أدرك الغرب أنَّ حضارته قد أصبحت في خطر، وأنَّ هذه المجتمعات أصبحت مهددة بالتفكك، وهناك تكهنات وتنبؤات وتوقعات بتفكك بعض الدول أو المجتمعات في غضون خمسين عامًا تقل أو تزيد.

وقد برزت أصوات في الغرب من أولئك الذين اطلعوا على القرآن الكريم وإلى تاريخ المسلمين بضرورة الاستفادة من الشريعة الإسلاميَّة في هذا المجال، وإعادة بناء الأسرة وفقًا لما جاء فيها؛ لتلافي الانهيار المتوقع لتلك المجتمعات، ومع أنَّ هذه الأصوات ترتفع وتزداد يومًا بعد آخر، لكن من المؤسف أنَّ واقع المسلمين لم يعد مشجعًا على الإقبال على هذا الحل؛ نظرًا لأنَّ الأسرة المسلمة قد بدأت أيضًا بالتفكك والتحلل لأسباب كثيرة، تشترك في كثير منها مع الغرب وتنفرد في بعضها، فكيف نعيد بناء الأسرة المسلمة مجددًا لإحياء وبعث أمَّتنا من ناحية، ولتقديم النموذج والمثال المطلوب على المستوى العالمي؟.

هذا ما سنعالجه -إن شاء الله- في حلقة قادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *