Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

في مواجهة العنف والمد الشيوعي الحلقة الرابعة

أ.د: طه جابر العلواني

العنف وصناعته

لم تكن فتواي أو رؤيتي قائمة على قناعتي “ببراءة الشيوعيّين” أو عدم استحقاقهم لما كان يدبِّر لهم البعثيّون رفاق الأمس. بل لأنَّني كنت أتمنى لو حوكم مرتكبوا الجرائم والمجازر منهم، وعوقبوا بما يستحقون، فارتدع غيرهم. وتم تطهير ساحة العمل السياسيّ من الجريمة والجريمة المضادّة. لكنَّني كنت أعرف أنَّ الشيوعيّين قد مارسوا من الجرائم ألوانًا وأصنافًا لم تعرفها الحضارات القديمة ولا الحديثة في “معركة الكلمة والمعتقد”؛ فهم من علَّم الشعب العراقيّ ممارسة القتل والإبادة الجماعيَّة، وتفننوا في ذلك وأبدعوا طرائق جديدة في القتل، فقتلوا الناس سَحْلاً بالسيارات حتى الموت، كما قتلوهم عن طريق شقهم نصفين وذلك بربط قدم التعيس أو التعيسة ممن يقررون إعدامهم بسيارة وربط القدم الأخرى بسيَّارة ثانية، ثم تسير كل سيارة باتجاه حتى ينشطر الجسد أو يتمزق. وقتلوهم بصلبهم على أعمدة الكهرباء حتى الموت. وكانوا أول من قام باستيراد “أجهزة التعذيب” من الدول الاشتراكيَّة والتدرُّب على استعمالها. وعرف العراقيَّات على أيديهم “فن إطفاء السجائر في فروج النساء”!!.

وكان أول سياسي عراقي سُحل في انقلاب تموز “عبد الإله” الوصيّ على العرش، فبعد أن قتله الضابط “عبد الستار سبع العبوسي” مع أفراد الأسرة المالكة سحلته الجماهير التي ناداها عبد السلام عارف ببياناته المذاعة لتنطلق إلى الشوارع انتصارًا “للثورة –الانقلاب” وذلك لقطع الطريق على أيَّة محاولة مضادة من قبل القوات الموالية للنظام الملكي، فانطلق الغوغاء إلى مَا كان يسمَّى “بقصر الرحاب” الذي يسكنه الملك وأسرته، ونهبوا كل مَا وقعت أيديهم عليه من متاع بسيط متواضع، لم يرض بمثله فيما بعد أي مرافق لصدام أو مقيم في المنطقة الخضراء من ورثته، وسحلوا جثة عبد الإله إلى قريب من الجسر المؤدي إلى جانب الرصافة، وهناك علقوا مَا بقي من الجسد الذي مزّقه السحل، وبدأوا يمثّلون به تمثيلاً لا أظن البشريَّة شاهدت أبشع منه. لقد قطعوا أصابع الكفين، وكان بعضهم يدس الإصبع في جيبه للذكرى!! وفر أحدهم بإصبع فيه خاتم وآخر بإصبع فيه “دبلة الزواج” وقطعوا ذكره ووضعوه في فمه، ثم في دبره. ووضعوا خشبة في دبر الجثّة –بعد ذلك!! وكل ذلك كان مسجلاً بصور يتداولها الناس وينظرون فيها بتشف، أو بأعصاب باردة.

كانت الجثة الثانية التي سُحلت “جثة نوري السعيد”. وذلك في اليوم التالي في منطقة البتاويّين في شارع السعدون. وحمل وصفي طاهر –الذي كان مرافقًا لنوري السعيد- الجثة إلى سيده الجديد في وزارة الدفاع عبد الكريم قاسم ليطمئن إلى استقرار كرسي الحكم تحته، ووصفي هذا كان مرافقًا مزْمنًا لنوري حين كان رئيسًا للوزراء، ثم صار مرافقًا لقاسم حيث أشاع أنَّه كان وطنيًّا من الضباط الأحرار!! وأنَّه كان مدسوسًا على نوري السعيد من أجل أن ينقل أخباره إلى زعيم “الضباط الأحرار” عبد الكريم قاسم!!

وقد أمر قاسم بعد اطمئنانه إلى أنَّ جثَّة قتيل “البتاويّين –شارع السعدون” هي جثّة نوري السعيد -التي لم يبخل وصفي بتفريغ مسدسه في الجسد الميّت- أمرهم بدفن الجثة فدفنت. وبعد يوم ونصف يوم توجهت الجماهير إلى المقبرة فنبشت القبر، وأخرجت الجثّة التي بدأت بالتحلّل وربطتها بالحبال، وسحلتها في الشوارع حتى لم يكد يبقى منها شيء. وقد ذكر لي أحد قادة “الحزب الوطنيّ الديمقراطيّ” وكان شاهد عيان أنَّ زعيم الحزب السيد كامل الـﭼـادرﭼـي حين مرت الجماهير ببيته يسحلون بقيَّة الجثة الممزَّقة قال بعض الحضور الآخرون للـﭼـادرﭼـي: أترضى يا أستاذ أن يحدث هذا في بلد متحضر، نريد أن نؤسّس فيه للديمقراطيّة والعدالة؟! قال زعيم الديمقراطيّين: هذا تعبير شعبيّ عن غضب مكبوت لعقود في صدور الجماهير، ولا مانع لديّ أن تخطئ الجماهير في سحل جثتي شخصيًّا إذا غضبت عليَّ!!

لقد لفتت هذه الأحداث نظري إلى قضيَّة السحل فتتبعت–فيما بعد- جذورها التاريخية عبر التاريخ البابليّ والتاريخ الفرعونيّ، وما وقع بين يديّ من تاريخ الحضارات، ومَا كتب في “معارك الكلمة والمعتقد” فوجدت أنَّها تعود إلى الدولة العباسيَّة وإلى بغداد تحديدًا حيث كان أول من سحل الخليفة الأمين ابن هارون الرشيد من زوجته زبيدة، والذي قتل في الخامس والعشرين من محرم سنة (198)هـ بعد أن زين له مستشاروه خلع أخيه المأمون (ت: 218هـ) من ولاية العهد وتعيين ابنه الموسى بدلًا منه، فافتتح بذلك سلسلة طويلة من أعمال العنف والقتل في محاولة للوصول إلى السلطة، انتهت بتغلب المأمون وتمكنه من الخلافة، وبعد أن تمكن قائد شرطة المأمون من الأمين وقتله أمر بسحله ليشهد جثته أهل الرصافة والكرخ، فتلك كانت البداية والله أعلم، ومن الطريف أنَّ قائد شرطة المأمون هذا “طاهر بن الحسين” له ضريح في بغداد يزار، ويلقبه الناس “مسجد وضريح الإمام طه” وما هو بطه بل هو “طاهر بن الحسين كبير شرطة المأمون”. فتأمل!!

ولا يظنن أحد أنَّ تلك المشاهد العنيفة قد طواها التاريخ فمازلنا نشهد امتدادًا لهذا العنف في تاريخنا القريب وواقعنا المعاش، فلازالت المشاهد الحسينيَّة تحفل بتمثيل ما جرى لإمام الشهداء الحسين وآله -عليهم رضوان الله وسلامه وبركاته- وقضايا اللطم والضرب بالسلاسل وإراقة الدماء. ويصطبغ تاريخنا السياسي بمظاهر لا تقل عنفًا، فما زلت بعد خمسين عامًا أجد صدى هتافات الماركسيّين في محكمة فاضل المهداوي في أذني، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: “إعْدِمْ إعْدِمْ يا شعبيّ الثائر إعْدِمْ”، وهو أحد هتافات كانت تردّد صباح مساء على أسماع العراقيّين في الإذاعة والتلفاز والمظاهرات، وبأصوات بشعة تنقل صور الإعدام وتبث رائحة الموت في كل مكان، وهناك هتاف آخر حفظه جيلنا، وما زلت عاجزًا عن نسيانه، فهو يرنّ في أذني كلّما تذكرت تلك السنين العجاف: “ماكو مؤامرة أتصير والحبال موجودة”، يردّدها حملة حبال السحل على أسماعنا وهم يجرون متظاهريْن في الشوارع بحبالهم كالثيران الهائجة وكالمجانين، متعطشين لسحل الناس. غير مدركين أنَّ عنفًا كهذا لا بد أن يولِّد عنفًا مضادًا يفوق هذا العنف.

ولسنا بحاجة للتأكيد على أنَّ رؤية الدماء البشريَّة تترك آثارًا نفسيَّة عميقة على النفس الإنسانيَّة وتمتهن حقًا أساسيًّا للإنسان أقره الإسلام والأديان جميعًا، وهو حقه أن يقضي نحبه بكرامة، وحسابه بعد ذلك يقع على الله، وليس معنى هذا إفلات الإنسان من العقاب إذا ما ارتكب جرمًا بحق فرد أو جماعة أو شعب وإنَّما المقصود أن تتم محاكمته ومعاقبته – إن ثبتت إدانته- وفق قواعد إنسانيَّة تقرها الشريعة وينظمها القانون، لا أن يتم التصرف معه وفق طرائق تعافها الحيوانات والضواري.

وحتى نجلي مسألة رفض الإسلام القاطع وموقفه من إراقة الدماء البشريَّة يمكن أن نتوقف أمام تعاليم الإسلام التي ترشدنا إلى أنَّ “كلب الصيد” المعلَّم إذا ولغ في دم الصيد أو أكل من لحمه يصبح كلبًا غير معلَّم لا يجوز الاصطياد به؛ لأنَّ صيده –آنذاك- يصبح لنفسه، لا لصاحبه الذي أطلقه ليصيد له، ويمكن أن نمضي فنقيس على ذلك الإنسان الذي يُحرّض ويُطلق للفتك بإنسان مثله بتلك الطرق البشعة، والذي يجرِّم الإسلام فعله تجريمًا مطلقًا. أنَّى لمثل هذا أن يستعيد إنسانيَّته؟!

وعلى الرغم من تجذر ظاهرة العنف في المجتمع العربي فإنَّنا نعتقد أنَّ هذه الظاهرة يمكن استئصالها أو على الأقل التخفيف منها، وسبيلنا لذلك القيام بعمليَّة إعادة تأهيل نفسيّ للإنسان العربي عمومًا والعراقي خصوصًا، وعلينا أيضًا ألا نهمل المناهج التربويَّة التي تغرس في نفوس الناشئة فضائل العفو والاعتدال والتسامح، وواجبنا الأكبر يتمثل في تخليص الثقافة العربيَّة وتنقيتها من المؤثِّرات الثقافيَّة التي قد تؤدي إلى تدمير الذوق الإنسانيّ، وتؤسِّس لثقافة الدم والعنف، وفي هذا الصدد فإنَّني أدعو إلى أن تقوم مراكز البحث العربيَّة بدراسات نفسيَّة وتربويَّة على مكوِّنات الثقافة في العراق والعالم العربي ثم الإسلاميّ؛ لنتعرف على دواعي العنف الكامنة في الثقافة العربيَّة ونبحث في السبل الكفيلة بالتخلُّص منها، ونراجع سائر مصادر وموارد ثقافتنا!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *