أ.د: طه جابر العلواني
وصف العراقيون بأنهم شعب قوي الشكيمة صعب المراس ميالٌ إلى التمرد على الحاكمين شديد الرغبة في استبدالهم بين الحين والحين بحيث لا يكاد أن يقر له قرار مع أي حاكم. وقد ابتُلي في الآونة الأخيرة بحاكمين اتبعوا أسوأ ما فيه من النزاعات الطائفيّة والعنصريّة والفئويّة وزادوا من تفرق كلمته وشتات أمره وتمزق اجتماعه فأدى ذلك إلى وقوعه في براثن احتلال بعد أن اعتقدت البشرية لفترة من الزمن أن عصور الاحتلال قد ولت وأن تراث الاستعمار قد اندثر ولم تعد العلاقات الدولية تقوم إلا على مصالح والعلاقات الاقتصادية وأن العداء مهما اشتد بينها فلن يتجاوز ما عرف بالحروب الباردة لكن العراق كأنه كان استثناء حيث استدرج إلى صراعات ونزاعات إقليمية وطائفية وتمزق داخلي أدت إلى أن يستنصر فريق من أبنائه بأمريكا باعتبارها القوة الأعظم فجاءت لاحتلال أرضه والهيمنة عليه في عام 2003 ومنذ ذلك التاريخ والحرب الأهلية الطائفيّة قائمة فيه يذهب ضحاياها في كل يوم بالعشرات أو المئات أو الآلاف في بعض الأحيان. وقد عمل كثير من المعنيين بالشأن العراقي على أن يجدوا حلاً للأزمات التي أصبحت جزءًا من الحياة العراقية لا ينفك عنها فلم يحالف الحظ أو التوفيق أيًا من تلك المحاولات وبقيت الأزمة قائمة تأكل أبناء هذا الشعب ذي التاريخ العريق والمقومات القيميّة الهائلة عبر التاريخ الذي عاشته البشرية فما من عصر في عصور التاريخ إلا وكان للعراق والعراقيين فيه دور يقل أو يزيد يصغر أو يكبر في خدمة البشرية في مستويات مختلفة وحين يعجز الناس عن إدراك الأزمة وفهمها وتحليلها وتفكيكها فهم عن معالجتها أعجز وأحيانًا يجد المحاولون في اليأس راحة وفي الاستسلام دعة ولكن المؤمنين بالله الذين يعرفون لهذا البلد مكانته وفضله على البشرية فهو من علم البشرية القراءة والكتابة وكانت بلاده مصدر النبوة والرسالة منها انطلق إبراهيم عليه السلام إلى منطقة تجواله التي شملت مصر والشام والجزيرة العربية وفيها ببطن مكة بوء الله له مكان البيت وأمره وولده إسماعيل برفع قواعده ببطن مكة وأن يؤذن في الناس بالحج وبتأسيس الملة ووضع حجر الأساس لبشرية موحدة إلا من سفه نفسه ونسي إنسانيته وتجاوز بشريته. إن هذا البلد يستحق لا من بينه وحدهم بل من العالم كله الالتفات إليه وتقديره والعناية به وترميم ما اندثر في حضاراته وتراثه ورفع قواعد عمرانه من جديد. ومعالجة سائر أزماته لعل البشرية بذلك تؤدي بعض ديونها لهذا البلد العريق وشعبه.
وحين أدركنا أن الأزمة العراقية قد بلغت حد الاستفحال والتركيب المعقد فلم تعد أزمة بسيطة يمكن أن تعالج بالحلول اليسيرة اتجهنا نحو القرآن المجيد باعتباره الكتاب الكوني الذي أنزله الله (سبحانه وتعالى) معادلاً للكون ومستوعباً له ودليل استخلاف فيه فأنزلنا أزمتنا العراقية بين يديه واستنطقناه العلاج؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرنا وهو الصادق المصدوق بأنه قد ترك فينا كتاب الله وأخبرنا بأنه إن تمسكنا به فلن نضل بعده أبداً فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فهو المخرج من الفتن والعاصم في الأزمات، مَن تركه من جبار قصمه الله ومّن ابتغى الهدي في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين والصراط المستقيم مَن قال به صدق ومَن حكم به عدل ومَن استجار به أجاره ومَن لجأ إليه أنار له السبيل ووضعه على سبيل الهدى.
وحين عرضنا أزمتنا العراقية على كتاب الله (جل شأنه) وضع بين أيدينا المؤشرات التالية:
1-أن البلاء إنما يبدأ عندما يطول على الأمة الأمد ويبعد عهدها بكتاب ربها فتقسوا منها القلوب وتتحجر فيها النفوس وآنذاك يغري الله بينهم العداوة والبغضاء فيفرقون دينهم ويكونون شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون قال (جل شأنه) ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاًمِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ثم بين للفريقين أن المنقذ لهم مما هم فيه هو رسول الله والكتاب الذي أنزل عليه فقال (جل شأنه) ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾، ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هذه الآيات توضح لنا أن الأمم التي اصطفاها (جل شأنه) برسالاته وبكلامه تحكم تقدمها وتأخرها ووحدتها وتفرقها آيات وسنن، فإذا أنزل الله كتاباً على أمّة كما أنزل التوراة في بني إسرائيل على سيدنا موسى ثم الإنجيل على سيدنا عيسى حين يطول الأمد عليهم ويقولون ربنا باعد بيننا وبين أسفارنا فكأنهم يملون أسفارهم ويطلبون البعد عنها فيصيبهم الله نتيجة طول الأمد بقسوة القلوب وزيغ النفوس ويترتب على قسوة القلوب أن يرفع الله يده عنهم ويمسك عنايته فلا تنزل برحمته عليهم فتحل بينهم العداوة والبغضاء بدلاً من ألفة القلوب وصفاء النفوس وزكاة الأعمال والتصرفات فإذا أغريت بينهم العداوة والبغاء فإنها لن تتوقف حتى يعودوا عن غيهم ويرجعون إلى كتبهم بقلوب خاشعة مخبتة تائبة لتسترد تلك القلوب قدرتها على الوعي بالكتب فتتوقف حالة التعامل الحماري بينهم وبين كتبهم ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
2-والعراقيون اليوم طال عليهم الأمد بالقرآن وقست منه القلوب فلم يعودوا يتدبرون القرآن بل على قلوب أقفالها يقرءونه لا يجاوز تراقيهم ويرددونه ولا يفهموا إلا كمثل الحمار يحمل أسفاراً سواء في ذلك مختلف الطرق والمذاهب والطوائف. فأعقبهم ذلك الهجر للقرآن هذه الحالة في قسوة القلوب وطول الأمد بالهجر والمباعدة وما تبع ذلك من فرقة واختلاف جعل العراقي يعلي شأن الطائفة عن شأن الأمّة وشأن المذهب على شأن الله وشأن المرجع على شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن المجيد فكانوا بذلك قد بلغوا المرحلة التي وضعتهم في عداد أولئك الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً.
3-يقول جل شأنه﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾(الأنعام:159) فيعلن براءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم، ولا يبرأ رسول الله منهم إلا بعد أن يبرأ الله (سبحانه وتعالى) منهم، فالله (جلّ شأنه) يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال:33). وهذه البراءة تجعلهم في موقف استحقاق للعذاب المترتب على الفرقة والتشرذم ولذلك يأتي قول الله (جل شأنه)﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ۗانْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾وحين يلبس الناس شيعاً يكونون قد بلغوا حالة هي التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين قال (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
4-هذه الحالة قد بلغتها أزمتنا اليوم وقد استفحلت واستهان الناس بالقتل على الهوية وعلى الاسم والطائفة وكل حزب أو فئة أو طائفة تسوغ لنفسها استباحة دماء الآخرين وقتلهم والاستهانة بالنار وسخط الله وعذابه متجاهلة كل تحذيرات القرآن الكريم من قتل النفس إلا بالحق، وليس من الحق كل الأسباب التي تتداولها الأفعال يمكن أن يؤدي إلى إرضاء الله أو رسوله أو آل بيت رسوله أو صحابته أو المؤمنين في أي عصر من العصور. إذ كيف يرضى الله أو رسوله أعمال سخط الله منها وشدد النكير على مرتكبيها.
5-كيف يمكن إيقاف هذه الدوامة والفتنة الدائمة المستمرة والخروج من الأزمة:
أ. أن نتوب جميعاً إلى الله توبة نصوحاً.
ب.أن ننزع من قلوبنا وعقولنا نزغات الشيطان التي تدفعنا إلى تفريق ديننا وتحويل مجتمعنا إلى أحزاب ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾(الروم:32) فإذا علم الله منا صدق العزيمة وصدق التوجه إليه (جلّ شأنه) للخروج من هذه الحالة فسيعيننا عليها.
ج. ولنثبت لربنا (جل شأنه) صدق توجهنا نحو وحدة الدين وعدم التفرق فيه وعدم تعضية القرآن وتجزئته والتراجم بآياته. لابد لنا من التخلي عن كل ما في تراثنا من ثقافة وأفكار فرقت كلمتنا وشتتت جمعنا وضربت قلوب بعضنا بعض وجعلتنا شيعًا وأحزابًا. هذا التراث الطائفي الذي أوجد ثقافة تداولتها أجيالنا عبر العصور لابد من يجفف منابعها بقوله تعالى ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(البقرة:134). وهنا لابد رفع مستوى الوعي بالمسئولية الأخلاقيّة الشخصيّة ومسئولية الإنسان عن أفعاله وأقواله ومعتقداته وعدم مسئولية أحد عن أحد أو شفاعة أحد لأحد إلا بإذن الله. وأننا يوم القيامة سوف نسأل عن أعمالنا ولن يغني تراثنا مهما كان عنا من الله شيء. ولقد نادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آل بيت محمد فقال لهم: “اعملوا فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً” وأن القرآن المجيد قال ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
د. ﴾( فحين يعلوا الشعور بالمسئولية وإن الله يحاسب كلاً منا عن أفعاله وأنه لن يغني عنا حبنا أو بغضاً لغيره فتتساقط مجموعة من الأساطير التي عززت كثيراً من مقولات الفرقة.
ه. هناك كتب معروفة في تراثنا قد اختصت بلملمة أطراف الثقافة الطائفية منها كتب لدى الشيعة مثل أصول الكافي بحار الأنوار للمجلسي والقدير كتاب فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب للطبرسي النويري وما شاكل ذلك من تراث طائفي يسيء إلى أصحاب رسول الله أو أزواجه فكل ذلك لابد من صدور توجيهات من المراجع وأساتذة الحوزات في تاريخ الفرق أو الملل والنحل وكذلك ينتظر من السنة أن يستبعدوا بعض كتب ابن تيمية مثل منهاج السنة النبوية في رد على الشيعة والقدرية والوشيعة في نقد عقائد الشيعة وغيرها فما هو معروف لدى المتخصصين لترفع من التداول إلا بين فئات الباحثين في درجات الدكتوراه والأستاذية.
و. يستحسن جمع كتاب في الرجال والرواة للحديث وكتاب أطراف الأحاديث الصحيحة لدى الطوائف من كل حديث له أصل في القرآن إضافة إلى اتصافه بالصحة في السند والمتن لكي يكون كتاباً موحداً في المدارس الدينية للطائفتين وتختار منه أحاديث معينة تبين مدى اتساع مساحة اللقاء بين الطوائف والمذاهب على اختلافها.
ز. تقوم طائفة من أفضل العلماء المحايدين الحاملين لهموم الأمة المؤمنين بضرورة توحيد كلمتها بوضع تفسير للقرآن بالقرآن خالٍ من جميع التحيزات التي حفلت بها كتب التفسير المختلفة والتي أضفى عليها نوع من التقديس والاحترام باعتبارها مفسرة للنص لنزع القداسة عن تلك التفسيرات المتحيزة والطائفية.
ح. الاستعانة بالإعلام والفن للترويج لثقافة الوحدة بين فضائل الأمة ونبذ كل ما من شأنه تعزيز الاتجاهات الطائفية والعنصرية واتجاهات التفرق.
هذا هو الإطار الذي يمكن أن نخرج به في أزمتنا بنور القرآن وهدايته لعلنا نستعيد بذلك وحدة كلمتنا فنمسك بالكتاب ونقيم الصلاة ونعتصم بحبل الله ونسأله أن يؤلف بين قلوبنا ويصلح ذات بيننا ويجمع على الحق كلمتنا ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.