أ.د/ طه جابر العلواني
بقطع النظر عن أقوال الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة أو غيرهم في التعليل، فإنَّ الله (جل وعلا) قد علل الكثير من أحكامه صريحًا وإيماءً وتنبيهًا. وعلل رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلل أصحاب رسوله من بعده وكذلك فعل المجتهدون. ولا يسع إنسانًا أن يقول بالقياس ثم ينفي التعليل حقيقة أو صورة.
إنَّ الله (تعالى) قد علل إيجاده العباد بقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:56). وعلل إرسال الرسل بقوله تعالى: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (النساء:165). وعلل تشريع القصاص بقوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ (المائدة:32). وعلل أمره لرسوله بالزواج من زينب بقوله: ﴿.. لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ (الأحزاب:37)، وغير ذلك كثير جدًا.
ومن تعليلات الأحكام في السنَّة قوله (عليه الصلاة والسلام): “إِنَّي كنتُ نَهَىتُكم عنْ زيارةِ القبورِ، فزوروها، لُتُذَكِّرَكُمْ زيارتُها خيرًا، وكنتُ نَهَىتُكم عنْ لحومِ الأضاحي بعدَ ثلاثٍ، فكلُوا، وأمسِكُوا ما شئتُم، وكنتُ نَهَىتُكم عنِ الأشْرِبَةِ في الأوْعِيَةِ، فاشربوا في أيِّ وعاءٍ شئتُم، ولا تشربوا مُسْكِرًا”. وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): “لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية، ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه، ويشق علي أن يتخلفوا عني، ولوددت أني قاتلت في سبيل الله فقتلت ثم أحييت ثم قتلت ثم أحييت”، وقوله: “يا معشرَ الشبابِ، منِ استَطاع الباءَةَ فلْيتزوَّجْ، فإنَّه أغضُّ للبصَرِ وأحصَنُ للفَرْجِ، ومَن لم يستَطِعْ فعليه بالصَّومِ، فإنه له وِجاءٌ”.
وقد علل الصحابة وأثبتوا الأحكام بناء على عللها –منصوصة أو مستنبطة– فعللوا بالمصلحة والضرورة والحاجة ودفع الضرر، وأثبتوا أحكامًا لم تكن، وأوقفوا بناء على ذلك العمل ببعض ما كان معمولًا به لعلة ثم زالت علته. وكانوا في كل ذلك يتفقون أحيانًا ويختلفون، والأمثلة على ذلك تجل عن الحصر منها: إيقافهم ما كان يعطى للمؤلفة قلوبهم؛ لأنَّ الله قد أعز الإسلام وأغناه. ومنها: جمع سيدنا عمر الناس على أبي بن كعب في قيام رمضان بعد أن امتنع عن ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لئلا يفرض عليهم. ومنها: نهي عمر لحذيفة عن الزواج بيهودية من المدائن وعزمه عليه لتطليقها، وحين حَاجَّه حذيفة (أحرام هي يا أمير المؤمنين؟) قال: (لا، ولكني أعزم عليك أن لا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإنِّي أخاف أن يقتدي بك المسلمون؛ فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين). ومنها: موقفهم من قسمة أرض السواد. ومنها: الطلاق الثلاث. ومنها: تحديد حد شرب الخمر بثمانين، وإيقاف عمر – رضي الله عنه – حد السرقة في عام الرمادة، وكان ذلك كله بناء على علل ذكروها وقد سلك التابعون وتابعوهم والمجتهدون هذا المسلك أيضًا.
فالقول بأنَّ نفي التعليل إنَّما هو تنزيه لله (تعالى) لأنَّ القول به يعني أنَّه تعالى مستكمل بالغرض، فهذا إنَّما هو نوع من الوسواس. وقول: لا ينبغي أن يخطر على الذهن ولا تقليبه على الألسنة فضلًا عن وضعه على السطور، ذلك لأنَّ من البديهي أنَّ المستكمل بالغرض أو العلة إنَّما هو العبد، لا خالقه الغني (تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا) . هذا وقد تأثرت مذاهب الأصوليين في تعليل الأحكام بمذاهبهم الكلاميَّة، فالذين ساغ في مذاهبهم الكلاميَّة تعليل أفعال الله (تعالى) وأحكامه، ولم يروا في ذلك ما ينافي التوحيد أو يخدشه، كان للتعليل في نظرهم مفهوم ينسجم مع هذا المذهب، والذين رأوا أنَّ القول بالتعليل هو نفسه القول بالغرض وأنَّه ينافي التوحيد وقفوا من التعليل ومن حقيقته موقفًا آخر يتفق مع مذهبهم ذاك.
ولقد أثرت تلك المذاهب تأثيرًا سلبيًّا شديدًا في سنَّة السببيَّة والأخذ بالأسباب، وهيأت العقل المسلم لأزمة “تجاهل الأسباب” أو عدم ربط الأسباب بالمسببَات، وألقى ذلك كثيرًا من الغبش على قانون السببيَّة وهيأ الأذهان لإنكار قانون السببيَّة أو التقليل الشديد من أهميَّته والقول بالجبر، وشاعت أمراض فكريَّة كثيرة بين المسلمين نتيجة لذلك، فكثيرون توهموا أنَّ هناك تنافيًا بين السببيَّة والعليَّة والتوكل، وبينها وبين الإيمان بالقضاء والقدر، وألقت تلك الأفكار والمناقشات بظلالها السيئة على مفهوم القدر نفسه، وأصبح المسلم يميل إلى التواكل والكسل، وإنكار الاختيار الإنساني وإنكار تأثير الأسباب، وشاعت تلك المقولات التي تدعي أنَّ الأسباب لا قيمة لها، وأنَّ الأشياء تخلق عندها لا بها، فالنار لا تحرق ولكن الله يخلق الحرق عند مماستها، وهم يعلمون أنَّه مادام الحرق قد حصل ببماسة النار فسواء كان بخلق الله الحرق عندها أو بها فهما سواء، وتحصيل حاصل، ولم لا يقال إنَّ سنَّة الله في النار أن تكون محرقة؟! ولله أن يوقفها عن الإحراق خرقًا للسنَّة التي خلقت بها، فقال تعالى: ﴿.. يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء:69). لكن تلك الوسوسة التي حدثت جرَّت إلى ذلك كله، والله (تبارك وتعالى) قد قال: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (الصافات:96)، فهو خالق النار وخالق الإحراق بها، وهو (جل شأنه) القادر على أن يوقفها إن شاء أو يعطلها إلى غير ذلك، لكنَّهم بجدالهم ذلك وبتناسيهم لكثير مما جاء القرآن به أحدثوا ذلك الشرخ في العقل المسلم وأوقعونا بتلك الأزمة، والله (جل شأنه) حين ذكر قصة ذي القرنين قال ببساطة ويسر: ﴿.. وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ (الكهف:84-85)،) فالسببية قانون إلهي لا يسع مؤمنًا بالله واليوم الآخر أن يتجاهله أو يقلل من شأنه أو ينفي آثاره.
ومما يحزن القلب أنَّه برغم السقوط في هذه الإشكاليَّة من قبل البعض، إلا أنَّ من بعدهم قد تبعوهم في هذه الإشكاليَّة وتبعوا رأيهم هذا دون نقد أو مراجعة من كتاب الله (جل وعلا)، ودون إعمال للعقل والفكر في الدنيا، واستنباط قوانينها التي بالتأكيد تتسق مع قوانين الكتاب الكريم. وتأثر العقل المسلم بهذه القضيَّة إلى اليوم يجيب على السؤال الكبير وهو كيف وصل حال المسلمين إلى هذا التدهور والانحطاط بين الأمم؟ فهذه هي الاجابة، ترك الأخذ بالأسباب ظنًا أنَّها لا قيمة لها، وأنَّها ليست من الدين، بل وتناقض الإيمان والتوكل على الله. فإنَّا لله وإنَّا اليه راجعون.Top of FormBottom of Form