أ.د/ طه جابر العلواني
قبل مَا يزيد عن ثلاثين عامًا حضرت ملتقى الجزائر للفكر الإسلاميّ بدعوة من وزير الشئون الدينيَّة آنذاك د. مولود قاسم بن قاسم –يرحمه الله تعالى- كان الرجل واسع الثقافة، لا أدري مَا الَّذِي جعله يضع في محاور ذلك الملتقى هذا السؤال الَّذِي وضعته عنوانًا لهذه الخاطرة؟
ولطالما سخر البعض منه وهم يؤكدون أنَّ البترول ومشتقاته وسائر مَا تمخضت عنه بطون أرض العرب إنَّما هُوَ نعمة أنعم الله (تعالى) بها عليهم؛ ليدخلوا العصر، وليحدِّثوا بلادهم، ويلحقوا بركاب الأمم المتقدمة، فكيف يطرح أمر كهذا للتساؤل بتلك الطريقة؟ ولم يقدم إلا أستاذ واحد بحثًا سطحيًّا في ذلك الموضوع مؤكدًا على أنَّ نفط العرب وأموالهم نقمة عليهم لا نعمة، وبعد كل تلك السنين الطويلة التي لاحظنا فيها كيف استُعمِل بترول العرب، وكيف استُغِل، نستطيع القول بأنَّ الأرجح أنَّ مَا استُخرِج من بطون أرض العرب كان نقمة عليهم لا نعمة.
هذه العراق تترنح بين احتلال وانتداب ونفوذ وسيطرة منذ أواخر العهد العثمانيّ، لما اشتملت عليه بطون أرضها من معادن ثمينة، في مقدمتها البترول، انتهت بجوع أهلها وتشردهم وتمزق أوصالهم وتفرق شعبهم وتدمير مقدراتهم، وقد استغل العرب البترول لتكديس منتجات الحضارة وليس لصنع حضارة، وفشت فيهم أمراض لم تكن في أسلافهم، وقبلوا كثير من الذلة والمهانة من أجل المحافظة على الترف الكاذب الَّذِي حصلوا عليه من أثمان معادنهم، وظنَّ بعضهم أنَّهم قد تحضروا بتكديس منتجات الحضارة وإقامة الأبراج الشامخة مع بقاء النفسيَّة والعقليَّة على مَا كانت عليه إلا قليلًا لم يحسنوا استغلال واستثمار مَا أودعه الله في أراضيهم حتى يومنا هذا ونقول إلا قليلًا، وقد كان في مقدورهم لو صلحت القلوب والعقول أن يقيموا حضارة نموذجيَّة شامخة في سائر بلاد العرب والمسلمين لكنَّهم لم يفعلوا، فانتشر الفساد والرشوة، وتكدست الوسائل الحضاريَّة في بلدانهم وأسلحة الدمار ليحابروا بها إخوانهم وأنفسهم في كثير من الأحيان.
إنَّ جميع بلدانهم مهددة اليوم، تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، طمعًا في مَا في باطن هذه الأرض من معادن لم يعرفوا كيف يستغلونها ويستفيدون منها؛ فوضع أعدائهم وخصموهم الأيدي عليها، وتصرفوا بها، والعرب صاغرون؛ فهل كان مَا في بطون الأرض العربيَّة نعمة أم نقمة؟
وكم نتمنى أن يكون هذا السؤال بديلًا في هذه السنوات العجاف عن سؤال النهضة الذي طرحه شكيب أسلان عام 1932: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”، نتمنى من كُتَّابنا ومفكرينا أن يتداولوا هذا السؤال، هل ما في بطون أرض العرب وما استُخرِج منها وما يزال يُستخرَج نعمة على العرب والمسلمين أو هو نقمة، بما جره من مصائب وويلات وصراع، وقائمة طويلة من الخسائر، أقلها فقدان وحدتهم وتضامنهم؟
لقد هدد كيسنجر عاهل العرب –آنذاك- فيصل بن عبد العزيز -يرحمه الله- تهديدًا خفيًّا، فهمه فيصل بذكائه الثاقب، وقال له: إنَّنا وإن تغيَّرت أحوالنا بعد البترول، وبدأنا ندخل الكثير من منتجات الحضارة ووسائلها إلى بلداننا، لكننا ما نزال قادرين على أن نعود إلى البادية، وإلى صحارينا، ونعيش على التمر ولبن النوق. ألا ليت زمان التمر، ولبن النوق يعود إذا لم يكن هناك سبيل آخر إلى عودة العزة والكرامة والوحدة والدعوة إلا هو:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع.