Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

خطورة تسييل المفاهيم (المقدس والمحرم).

أ.د: طه جابر العلواني.

العالم الشيعي يكثر من ذكر ما يسمى ب”العتبات المقدسة”، ويعنون بذلك ما بني على قبور الأئمة من آل البيت من مبان اتخذت مساجد، وعدَّت دار عبادة، ولقد سمعت قرَّاء العذاء لهذا العام، وغيرهم يتحدثون عن الحرمين الشريفين ويقصدون بهما: قبر الحسين، والعباس في كربلاء، وقبر سيدنا علي (رضي الله عنهم أجمعين)، ولم أكن أتصور أنَّ الخلط في المفاهيم والاضطراب فيها وابتذال استعمالها يصل لدى الناس إلى هذا الحد؛ فمفاهيم القداسة، والحرمة مفاهيم إلهيَّة لا يستطيع البشر كل البشر -اجتمعت كلمتهم، أو افترقت- أن يجعلوا من غير المقدس مقدس، وأن يجعلوا من غير المحرم محرم، لكنَّه الله (تبارك وتعالى) الذي خلق السموات والأرض بالحق يجعل من الأرض ما هو مقدس، وما هو محرم، ويصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس، فله (جل شأنه) أن يصطفي من الناس، ومن الملائكة ومن الخلق، ويختار من الأرض ما يجعله مقدسًا، أو محرمًا، فالقداسة مأخوذة من التقديس، وهو: التطهير بمفهومه الشامل، قال تعالى﴿.. أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(البقرة:125) طهارة حسيَّة، فلا تكون في هذه البقعة نجاسات حسيَّة، ولا تكون فيها نجاسات معنويَّة من شرك، وأصنام، وعبادة لغير الله.

وقوله (جل شأنه) ﴿.. وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(الأحزاب:33)، أراد به التطهير الشامل للمادي، والمعنوي بحيث لا تمس النجاسة الماديَّة، ولا المعنويَّة في جوانبها المختلفة الأخلاقيَّة. وآل البيت الذين قضى الله (جل شأنه) أن يطهرهم من ذلك تطهيرًا؛ ليجعلهم موضع حبه، وموطن رضاه، وموضع الإمامة في الهدى، ودين الحق، والأرض المقدسة أرض أذن الله بتقديسها، وتنزيهها من الشرك، والكفر، وعبادة غير الله (جل شأنه)، وأن لا يعلو فيها غير اسمه (تبارك وتعالى) فهي مسجد، أو مثل المسجد، وخاطبت الملائكة الله (جل شأنه) متوسلة إليه قائلة ﴿.. وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(البقرة:30)، أي لا نعلن أي اسم مع اسمك في معرض ألوهيَّة، أو ربوبيَّة، ولا نشرك أحدًا معك في صفاتك، لأنَّ الشرك ظلم عظيم، ولأنَّ الشرك نجس يصيب القلوب؛ ولذلك قال (جل شأنه): ﴿.. إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا .. (التوبة:28)، فالقداسة إذًا مفهوم قرآني الله وحده صاحب الحق في تسمية ما يريد به، أو وصفه به، وليس لأحد غيره أن يقدس أي شيء آخر.

 وأمَّا “التحريم” فهو مفهوم أخطر، وأشد من مفاهيم القداسة، اختص الله (جل شأنه) به بيته المحرم، ومساحة محدودة تحيط به، وقال (جل شأنه) ﴿.. أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا ..(القصص:57)، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ.. (العنكبوت:67)، وقد جعل الله (سبحانه وتعالى) للناس زمانًا وصفه بالتحريم هو الأشهر الحرم، ومكانًا وصفه بالتحريم كذلك، وهو البيت الحرام، وأصل التحريم من المنع، فقد كان شيوخ القبائل، وملوك العرب يجعل كل منهم مكانًا من الأرض حمًا له، أي يكون هو المسئول عن حمايته. وحفظه، ومنع أي أحد آخر من الاقتراب منه، أو انتهاك حرمته، والحرام الممنوع منه إمَّا بتسخير إلهي، وإمَّا بمنع قهري، وإمَّا بمنع من جهة العقل، أو الشرع، وبالتالي فقد حدد الله المحرم في الزمان بالأشهر الحرم الأربعة، وفي المكان بالمسجد الحرام، وما أحاط به مما يعد حريمًا له، وذلك ليعلم البشريَّة كيف تجعل من الأرض كلها إن استطاعت مثل الحرم في منع وقوع الفساد فيها، وسفك الدماء، وانتهاك الحرمات، وما إلى ذلك، وكذلك أن يكون لها زمن يجعلها قادرة على أن تدرك أنَّ الأصل في علاقة الإنسان بالإنسان إنَّما هو: السلام، والأمن، وحرمة الدم، والمال، والعرض من الآخرين، ولم يحرم الله (جل شأنه) من الأرض غير تلك البقعة المحرمة، فإذًا لدينا مقدس وهي: الأرض المقدسة، والأرض التي باركنا فيها للعالمين، الأرض التي أحاطت ببيت المقدس مما طهر الله (جل شأنه) وكان على البشريَّة أن تحافظ عليها طاهرة نقيَّة بعيدة عن أي انتهاك؛ لقدسيتها، وطهارتها، وكذلك بالنسبة للمحرم.

 وفي إحدى المرات التي حججت فيها، جمعني الله ببعض المسئولين عن أمانة مكة المكرمة، فأوضحت لهم خطأهم في إطلاق كلمة العاصمة المقدسة على مكة، فهي ليست مقدسة، ولكنَّها محرمة، نعم قد يقتضي التحريم التقديس لكن هذه المفاهيم لابد من الالتزام بوضعها كما هي في القرآن الكريم، وكما وردت عن الله (جل شأنه)، فالوقوف عند حدود الله أمر لابد منه، وهذا لصالح الجميع. ولقد عجبت لبعض الكاتبين كيف تجرأ على القول: بأنَّ مكة إنَّما شرفت، واستفادت حرمتها من أنَّ ذرات من تراب كربلاء سقطت عليها فمنحتها الحرمة والقداسة[1].

ولقد لعبت السياسة في حياتنا دورًا خطيرًا فأساءت لهذه المفاهيم وحاولت تسييلها بحسب احتياجات الساسة فحين قامت الدولة الفاطميَّة في مصر حاولت أن تقطع صلات المصريين بالعالم الإسلامي كله؛ فادَّعت أنَّ آل البيت دخلوا إلى مصر بأشكال مختلفة فنصبت مشهدًا للحسين زعمت أنَّ رأسه الشريفة قد نقلت إليه من الشام، ودفنت فيه، في حين أنَّ الشيعة كافَّة يحتفلون في العاشر من صفر بما يسمونه ب”مَرَد الرأس” أي: رجوع الرأس، رأس الحسين من الشام بعد اطلاع يزيد عليه، وتأكده من أنَّ من قُتل إنَّما هو الحسين؛ أمر بإعادة رأسه ليدفن مع جسده في كربلاء. كما نصبت الدولة الفاطميَّة لأخت سيدنا الحسين زينب مرقدًا ما يزال عامرًا مع أنَّ المؤرخين قد أثبتوا أنَّ من ثبت دخوله من آل البيت إلى مصر هي: السيدة نفيسة فقط، ومن عدا السيدة نفيسة يدخل في إطار الادعاءات التي ادعتها السياسة لإيجاد نوع من الاكتفاء الذاتي لدى المصريين بما لديها من مشاهد. وزعت أيام الأسبوع كلها عليهم، فمولد أبي الحسن الشاذلي 2 ذي الحجة، مولد السيدة فاطمة النبوية 21 ربيع الأول، مولد سيدنا الحسين 11 ربيع الثاني، مولد السيدة سكينة 3 جماد الأول، مولد السيدة نفيسة 24 جماد الأول، مولد السيدة رقية 24 جمد الأول، مولد السيدة فاطمة الزهراء 20 جماد الآخر، مولد علي زين العابدين 8 جماد الآخر .. إلخ.  وبذلك ينشغل المصريون عن العالم الإسلامي وتنقطع صلتهم به.

 وحاولت الدولة الصفوية أن تفعل الشيء نفسه مع مسلمي إيران؛ لكن الشيعة العرب، وحملة التشيع العلوي كانوا أكثر قدرة على الإقناع بأنَّ العتبات موجودة في العراق، وأنَّه لا يغني عن الشيعي زيارة مرقد الرضى، ومرقد السيدة معصومة في قم؛ بل لابد من زيارة المشاهد والعتبات التي في العراق. واليوم رأينا السياسة وتدخلها في الإطار المذهبي، وإضفاء ما تشاء المصالح السياسيَّة إضفاءه على بعض البلدان، أو الأراضي، أو الأماكن من صفات. وقد وددت أن أحذر قومي من هذه الظاهرة الخطيرة التي قد تنتهي لا سمح الله بتسييل هذه المفاهيم الثابتة. والعبث بها، والامتداد بها إلى ما ليس منها. فلابد من الوعي بذلك، وفهمه، والوقوف عنده. فلا حرم إلا ما حرم الله، ولا قداسة إلا لما قدسه الله، وكلها أمور محددة ثابتة لا يمكن تسييلها، ولا يسمح بالعبث بها؛ لأنَّ ذلك يمس أصول الدين، وقواعده، وقد كنت أتمنى أن يلتفت علماء المملكة، وأئمتها إلى هذه الناحية، ويعيدوا النظر في تسمية مكة؛ ليطلقوا عليها: مكة المحرمة، بدلًا من العاصمة المقدسة، وينبهوا إلى انحصار هذا المفهوم في ذلك المعنى الذي ذكرنا، وكذلك الحال بالنسبة للأرض المقدسة.

ولقد زرت قبل حوالي خمس وثلاثين عامًا بوركينا فاسو حينما كانت تسمى ﭬولتا العليا، ووجدت فيها متنبئًا في إحدى القرى أعلن نبوته، وجعل من قريته قرية مقدسة، وانتشرت نحلته في أفريقيا، فصار له أتباع يعدون بالآلاف، وأثناء زيارتي له في منزله وجدت رجلين على يمينه، وعلى شماله؛ سمى الأول منهما أبى بكر، وسمى الثاني عمر، وجعل ما بين بيته، والغرفة التي يخلو بها مسعى بين الصفا والمروة، وكان هناك شلال ماء لطيف صغير أطلق عليه زمزم، وبنى له غرفة للذكر سماها الكعبة، له كوة صغيرة يخلو بكعبته تلك أربعين يومًا آخرها يوم المولد النبوي، وأعلن أنَّ يوم المولد النبوي هو أشرف الأيام أشرف من عرفات، ومن غيرها، فأمر باصطحابي إلى تلك الأماكن، وعادوا بي إليه، كان يزعم أنَّه لا يعرف العربيَّة فأحببت اختباره بعد أن ذكر لي أنَّه قد قضى في مكة ما يزيد عن خمسة عشر عامًا، فالتفت إلى من هو بجواري، وقلت له: لو كان حمارًا لتعلم العربيَّة، ويبدوا أنَّ الرجل سمعني، وكظم غضبه، كانت له سبحة طويلة من أخشاب يصل حجم الخرزة الواحدة منها إلى حجم كرة اليد الصغيرة، وكان يساعده في تحريكها أثناء التسبيح رجلان يجلسان عن بعد، فكلما توقفت عن التحرك حركوا له خرزة؛ ليستمر في تسبيحه، فقلت له: يا فلان اتق الله، فمهما كان شيطانك قوي، فيفترض أن لا يتمكن من إقناعك بأنَّك نبي.

 كان الرجل متزوجًا بإحدى عشرة امرأة، ولديه ما يقرب من مائة وعشرة من الأولاد والأحفاد، وله أسلوب أذان عجيب لازلت أذكر أنَّ قريته كانوا يطلقون عليه رحمة الله. فقلت له: أخبرني عن معجزتك؟ فالأنبياء يأتون قومهم بمعجزات، فما المعجزة التي أوتيتها؟ قال: أولًا يكفيكم أنَّني جئت إلى هذه القرية، وجميع أهلها مشركون. واليوم ها أنتم ترون كلهم مسلمون يتبعونني فيما جئتهم به، حبكت معي النكتة فضحت، وقلت: لو بقوا على وثنيتهم لربما كانوا أقرب إلى الله من اتباعك والاقتداء بك. يا قومنا احذروا وحاذروا لقد من الله علينا بكتاب هو نور وهداية، حرام علينا أن لا ننتفع به ولا نبلغه البشريَّة، وأكثر حرمة أن نزيف مفاهيمه ونغيَّر في أحكامه. لا تتبعوا خطوات الشيطان إنَّه لكم عدو مبين.

[1] أصل الشيعة وأصولها لمحمد حسين كاشف الغطاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *