Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

المقاصد العليا الحاكمة وتفعيلها

أ.د/ طه جابر العلواني

المقاصد العليا القرآنيَّة الحاكمة ثبت بالاستقراء التام لآيات القرآن العظيم أنَّها خمسة، هي:

التوحيد.

التزكية.

العمران.

الأمَّة.

والدعوة.

قام الاستقراء التام على اعتبار أنَّ الوجود يتألف من ثلاثة أبعاد:

الأول: البعد الغيبيّ الشامل لله (تعالى) وصفاته وأسمائه والوحي والنبوات والدار الآخرة، وسائر ما أدرجه القرآن تحت مفهوم الغيب. وهذا ما جعلنا “التوحيد” وعاءه الشامل؛ لأنَّ للتوحيد انعكاسات وتجليَّات على كل ما أدرجه القرآن المجيد تحت مفهوم الغيب أو وضعه في إطاره، وبالتوحيد تتحدَّد العلاقة مع كل جزئيَّة من تلك الجزئيَّات الغيبيَّة.

الثاني: بُعد عالم الشهادة، ويندرج تحته:

  • الإنسان المستخلف وهو ابن الطبيعة، وأكرم ما فيها، وهو الوليّ لها، المسئول عن إعمارها واستثمار ما فيها، وبينه وبين خالقه (عز وجل) وإلهه وربَّه عهد، واستخلاف وابتلاء وائتمان وجزاء.
  • الطبيعة أو الكون نفسه وسائر المسخَّرات فيه، وهو ميدان الفعل الإنسانيّ، والممارسات البشريَّة ومجال الابتلاء: ﴿… لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا …﴾ (الملك:2) وهو ما عهد الله (تعالى) للإنسان أمر إعماره، وبه يقوم “العمران”، فالله (جل شأنه): ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ (طه:6)، وكل ذلك خلقه الله للإنسان وجعله بيتًا كاملًا للأسرة البشريَّة الواحدة: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:29)، وقال (تعالى): ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم:32-34)، وقال (جل شأنه): ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ (هود:61)، ولما أمر الله الأسرة البشريَّة أن تعمر الأرض وتستعمرها ولا تهمل شيئًا منها، نهى البشريَّة أن تعيث في الأرض فسادًا من أي نوع وبأي شكل، وإذا كان للتوحيد تجليَّاته على “الإنسان والعمران” فإنَّ لكل من الإنسان والعمران دورًا فاعلًا في صياغة التوحيد وتنقيته وجعله توحيدًا نقيًّا خالصًا لا تشوبه الشوائب، وكثير ما يصوغ القرآن من قضايا الإنسان والعمران أدلة خلق وعناية لإثبات الألوهيَّة والتوحيد والبعث والحشر وغيرها.

لقد أثبت العلماء أنَّ الكنوز والثروات التي “تحت الثرى” ثروات هائلة ما زال كثير منها في حاجة إلى اكتشاف، وما البترول والمعادن والأحجار الثمينة إلا نماذج من تلك الثروات، والأغرب من ذلك أنَّ هذه الثروات موزعة في جميع أنحاء الأرض بشكل تكاملي، فهو (جلّ شأنه) يقول: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ *  ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ (فصلت:9-12)، فثروات الأرض يفترض أن تشترك فيها الأسرة البشريَّة بتكامل عادل ليزيد ذلك في وحدتها، ويحقق تعاونها ويجعلها قادرة على استثمار كنوز الأرض كلّها، لكن الأثرة والأنانية والبغي والانحرافات المتواصلة عن منهج الله (تعالى) أدَّت إلى كل تلك المآسي التي شهدتها الأرض منذ جريمة ابن آدم الأول حتى يوم الناس هذا؛ لذلك فإنَّ البشريَّة –كلّها- في حاجة إلى الوعي بهذه المنظومة وتبنيها وتفعيلها في جميع أنحاء المعمورة.

البعد الثالث: ارتباط ذلك كله بحياة الإنسان الممتدة من عالم العهد ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف:172)، مرورًا بالاستخلاف والأمانة ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (يونس:14)، ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (الأنعام:165)، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب:72)، والابتلاء والجزاء، وبلوغ الجنة، أو القذف في النار.


التوحيد وتفعليه في الواقع:

يلخص القرآن المجيد “البعد الإنسانيّ المشترك للتوحيد” بقوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:64).

إذن: فالمنطلق اتفاق البشريَّة على هذه الدعائم الخمسة؛ لأنَّ البشريَّة حين تتمزق وتتفرق كلمتها ولا تتفق على هذه القواعد الخمسة فإنَّها على غيرها أشد اختلافًا وأكثر افتراقًا.

إنَّ البشر حينما فرَّقوا دينهم وصاروا شيعًا خسروا الكثير جدًا؛ فساد الفقر والجوع والمرض معظم أنحاء المعمورة، واستأثر الأقلون من أبناء الأسر البشريَّة بكل خيرات الأرض ليبددوها على صناعات مدمرة مثل “أسلحة الدمار الشامل” وعلى مغامرات تبتغي علوّ أمَّة في الأرض على الأمم الأخرى، ولتكون أمَّة هي أربى من أمَّة.

وحين تتفق البشريَّة على هذه الأسس والدعائم الخمسة تسهل معالجة أي اختلاف، فالدين في نظر القرآن والأنبياء والمرسلين كافَّة واحد لا يتعدد في أسسه وقواعده المشتركة، والأنبياء والرسل كلّهم إخوة أولاد علّات وأمتهم أمَّة واحدة، ودعوتهم واحدة، ومنطلقاتهم وأهدافهم واحدة: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:92)، إنَّ الأمور الجزئيَّة التي اختلفت الشرائع المنزلة على بعض المرسلين والنبيين فيها هي –في الغالب- من الأمور الفروعيَّة، ذات الصفة المؤقتة المتصلة في الزمان والمكان والبيئة، تزول وتتغيَّر بزوال أسبابها وعللها، لكنَّ الخالد الباقي الدائم عمومات وكليَّات مشتركة مثل: “الهدى والحق” الواردين في آيات ظهور الدين، “والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحل الطيبات وتحريم الخبائث، ووضع الإصر والأغلال عن البشريَّة، وارتباط الخلق بغاية الحق” فهذه أمور لا نعلم أحدًا من البشر يرفضها، أو يستنكف عن العيش في ظلالها.

والمواثيق والمنظمات الدوليَّة وكذلك القوانين الدوليَّة في كل هذه الأمور جعلت إحساس البشر بالحاجة إلى الاتفاق على المشتركات إحساسًا عاليًا. وحين تُقَدم القيم والمقاصد التي ذكرنا إلى البشريَّة بلغاتها وأساليب الخطاب الفعَّالة فيها فإنَّها سوف تجد كثيرًا من الآذان الصاغية خاصَّة عند أهل الفكر والنظر، ثم صنَّاع القرار، وسيجد فيها الباحثون المشغولون بهموم العالم حلولًا سهلة مبسَّطة لكثير من المشكلات والأزمات العالميَّة.

و”التوحيد” ليكون فعالًا في حياة البشر لابد أن يكون خالصًا لله نقيًّا من الشوائب، فليس بفعَّال ذلك التوحيد الذي قيل فيه: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ (يوسف:106)، والشرك قد يخفى بحيث لا يشعر صاحبه بتسلله إلى قلبه وإيمانه، وهنا تجد سائر المنظومات التي تتوقف حياة الإنسان عليها، مثل منظومات الفكر والتصور والأخلاق والسلوك والعبادة والمعاملات والعادات محاطة بذلك السور الواقي. فعليه تقوم كل تلك المنظومات ومنه تنبثق وإليه تعود، ولابد أن تكون حياة البشر كلّهم انعكاسات وتجليات للتوحيد الخالص.

التزكية:

وليكون التوحيد بتلك المثابة ولتظهر آثاره وتجلياته في نظم حياتنا –كلّها- فإنَّ “تزكية الإنسان” و”تقواه وطهارته” تمثل النتيجة اللازمة للتوحيد الخالص النقي، فلا تزكية ولا تقوى ولا طهارة بدون “التوحيد الخالص” ولا توحيد خالص يمكن أن يستقر في قلب وضمير من لم يترك ولم يرتدِ لباس التقوى في سره والعلن، ولم يكن من المطهرين الذين أذن الله لقلوبهم –وحدها- أن تمس معاني الكتاب وأن تعرج إلى عليائه، وهنا تصبح “التزكية، والتقوى، وطهارة القلوب” لوازم أساسيَّة للتوحيد فلا يخلص التوحيد بدونها، ولا توجد بدونه، وبذلك تتحول “التزكية، والتقوى” إلى ملكة قائمة في النفس الإنسانيَّة تحول بين الإنسان وبين الوقوع في الانحراف عن الهدى والحق، واستباحة الخبائث أو تحريم الطيبات أو السقوط في المنكر أو الدعوة إليه أو تجاوز المعروف والإعراض عنه أو قبول الإصر والأغلال للذات أو للغير، والذي يستقيم على ذلك هو المفلح وهو الإنسان الكفؤ لحمل التوحيد يقينًا في القلب وسلوكًا في الحياة، وممارسة ونظمًا، لا يمكن أن تتجاوز التوحيد بحال ولا في أي شأن من شئون الحياة وشجونها، فالتوحيد أصل والتزكية والتقوى فرع والتطهير الإلهيّ للإنسان ليكون من “المطهرين” ثمرة وفرع.

أمَّا كيف تحقق “التقوى والتزكية” بالشكل الذي ذكرنا فذلك ما سنبينه لاحقًا.


العمران:

        العمران عندنا يرتبط بغاية الحق من الخلق، فغاية العمران غاية دينيَّة دنيويَّة، تختلف مع الرؤية التي تقدمها الحضارة المعاصرة للعمران. وتستوعب رؤيتنا للعمران الرؤية الخلدونيَّة، وتتجاوزها، كما تستوعب الرؤى المعاصرة وتتجاوزها. فالعمران بوصفه مفهومًا قرآنيًّا له مشتقات تتجاوز جنسه الاشتقاقي إلى جنسه الدلالي الشرعي، لتضم في إطارها الاستخلاف، والأمانة، والتمكين، والإحياء، والزراعة، والصناعة، وكل ما يندرج تحت التنمية الشاملة بالمفاهيم المعاصرة، تستوعب ذلك كله وتتجاوزه، فيأخذ تفرده من نباته القرآني؛ ليصبح ثمرة جمع بين قراءتين، قراءة الوحي النازل من الله (جل شأنه) وقراءة الكون الذي خلقه الله، وأنشأه، واستخلفنا فيه.

 ويتبين لنا البعد الخطير لمفهوم العمران حين نستحضر كل ما ذكرنا وما لم نذكر من ظلال العمران على المفاهيم الدائرة حوله، والمفاهيم المنافية له، مثل الظلم والعيث في الأرض فسادًا والانحراف عن القيم، ولعل الحوار الذي حملته لنا سورة التوبة حول عمارة المساجد ينبه بجلاء ويشير بوضوح إلى تلك المعاني الجليلة التي يتشكل منها المفهوم القرآني للعمران ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ (التوبة:17-18).

الأمَّة:

 وأمَّا الأمَّة فهي مشتقة من الأم، وفيها إيحاء بكل ما تشتمل الأمومة عليه من معان؛ لذلك كانت الأمَّة بعد الفرد والأسرة الوعاء الشامل لهذه الرسالة، والمتلقي المشهود عليه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والشاهد على الناس، من هنا كان لابد من النظر إليها على أنَّ وجودها بكل المعاني التي تشتمل عليها مقصد أساس، وغاية عليا، تندرج في إطار المنظومة المقاصديَّة التي ذكرناها، فإذا كان الإنسان الفرد مناطًا للفعل الإنساني لا يحدث الفعل الإنساني من غيره ولا يتأتي من سواه فإنَّ الأمَّة بكل ما تدل عليه من ضوابط وعلاقات وتصرفات تتوقف عليها كل التكاليف التي أناطها بالأمَّة والجماعة، من هنا كان وجودها ضرورة، وإقامتها مقصدًا، فهي مساوية للوجود الفردي من هذه الناحية بكل ما فيها من علاقات وتصرفات وأدوار.

الدعوة:

وأمَّا الدعوة فهي صلب رسالة الأمَّة، والبديل عن النبوة في غيابها أو فتورها، فالمقاصد العليا الحاكمة في حاجة دائمة إلى من يدعو البشر إليها، ويذكرهم بضرورة الالتزام بها، وتحقيقها في الواقع وفي الحياة، ومن هنا تكون الدعوة ليست أمرًا تطوعيًّا، بل هي أمر لازم واجب التنفيذ، لا يمكن أن يقوم البناء المقاصدي إذا أهمل هذا المقصد أو لم يؤخذ بالجديَّة اللازمة؛ ولذلك فإنَّ الله (جل شأنه) قد قال: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران:104)، ويريد بذلك أن تكون الأمَّة كلها أمَّة دعوة، وأمَّة استجابة، فكما استجابت لله وللرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يجب أن تدعو البشر كافَّة لتنتقل من موقف المدعو إلى موقف المستجيب، ليدخل الجميع آنذاك في أمَّة الإجابة، وذلك هو المراد بظهور الدين على الدين كله، فليس المراد غلبة دين على دين، كما يتصور البعض؛ لأنَّ الدين كله لله، ولأنَّ الدين كله واحد، ولأنَّه منذ عهد نوح إلى عهد محمد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) كل هؤلاء الأنبياء والرسل الذين لا نكاد نحصيهم، كل هؤلاء علمونا أنَّ هذا الدين يقوم على الأمَّة والدعوة، فهما الجناحان الذان يطير بهما النور الديني، وبهما ينتشر وتعم أنواره وتهتدي البشريَّة كافَّة به.

وإذا كان التوحيد والتزكية والعمران قد شكلت المقاصد العليا الحاكمة من الناحية التي ذكرنا فإنَّ الأمَّة والدعوة المقصدان العمليَّان المحققان لعمليَّة انتشار الدعوة وإضاءة الوجود بها، فإذا قامت الأمَّة بالدعوة على وجهها ظهر الدين على الدين كله، واستجابت البشريَّة له، وعمَّت أنواره الوجود، وتحققت رسالة الأنبياء كافَّة، من نوح إلى سيدنا محمد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)؛ ولذلك أيضًا كانت الأمَّة أمَّة مخرجة للناس، ليست كأمَّة بني إسرائيل أمَّة مدخلة في الأرض المقدسة، ففي أمَّتنا يقول الله (جل شأنه): ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ..﴾ (آل عمران:110)، أي أخرجت لتكون داعية ومثالًا ونموذجًا وشاهدًا ومبشرًا ونذيرًا؛ لتهتدي البشريَّة كلها في التأسي بها، وتنتفع بشهادتها عليها، ويكون الدين كله لله.

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *