Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

أفعال الرسول ودلالاتها

أ.د/ طه جابر العلواني.

إنَّ السنَّة النبويَّة المطهرة بمفهومها القرآني وخصائصها البيانيَّة يفترض أن يحتل الجانب العملي والتطبيقي منها أعلى المستويات؛ لأنَّ الله (تبارك وتعالى) قد أناط مهام تلاوة آيات الكتاب واتباع تلك الآيات وتعليم الناس الكتاب وبيان منهاج اتباعه وتطبيقه وتفعيل آياته في تغيير الواقع، ذلك كله كان يقتضي أن تكون السنَّة الفعليَّه والجانب العلمي التطبيقي من تصرفات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحبة المرتبة العليا في تعليم الكتاب والحكمة، وفي تقديم منهج التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  للناس كافَّة.

        ولكن الفقهاء منذ البداية انصرف اهتمامهم لأقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضعف إهتمامهم بالأفعال، واختلفوا في حجيتها؛ وذلك لأسباب كثيرة منها تأثر بالاتجاة القانوني منذ عرفت البشريَّة القوانين، فالأقوال يسهل تحويلها إلى قواعد شاملة في الأمر والنهي، وبيان العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والإحكام والتفصيل ( الإجمال والبيان)، والمنطوق والمفهوم وما إلى ذلك، أمَّا الأفعال فحين تُفصل عن الكتاب الكريم أو عن أقوال رسول الله بحيث يُقترن الفعل بالقول فإنَّ من الصعب على المجتهد مهما على كعبه في الاجتهاد والاستدلال أن يمارس فيه ملكته الفقهيَّة مثل ما يمارسها في الأقوال والاستدلال بها، وبيان مراتبها في طلب الفعل أو طلب الترك، وليس كذلك الأفعال.

ونحن نعتقد أنَّ هذا الاتجاه هو اتجاه أملته العقليَّة الفقهيَّة القانونيَّة؛ طلبًا للوصول إلى الأحكام بأيسر الطرق القائمة على صيغ الألفاظ، والتي لا تحتاج إلى جمع بين القراءتين: “قراءة القرآن” و “السنَّة النبويَّة” بتصديق القرآن وهيمنته؛ ولذلك فإنَّهم لم يختلفوا في أنَّ مطلق الأمر للوجوب، ومطلق النهي للتحريم، وكما اتفقوا في كثير مما يتعلق بالنظر في الأخبار، من تواتر وأحاد واستفاضه وشهرة، وما يتعلق بالأسانيد ومعرفة الرجال، لكنَّهم حين جاؤوا لأفعال الرسول وتقريراته فقد اختلفوا فيها اختلافًا شديدًا بعد اتفاقهم على أنَّه تشارك أقوالهم فيما يتعلق بنقلها من الأسانيد، ولكن قالوا بأنَّ المتون التي تروى فيها  أفعال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها اختلاف كبير. مع أنَّ المتبادر إلى الأذهان من معنى السنَّة هو الأفعال؛ لأنَّه إذا قيل: “سنة فلان” يدرك الناس من ذلك أنَّ المراد طريقته، والفعل أقرب لأن يكون طريقة من القول.

        وقد لخص ذلك الإمام الرازي في المحصول: إذ قال: ” اختلفوا في أنَّ فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بمجرده هل يدل على حكم في حقنا أم لا ؟ على أربعة أقوال:

أحدُها: أنَّه «للوجوب» وهو قول ابن سريجٍ، وأبي سعيدٍ الاصطخريِّ وأبي علي بن خيران.

وثانيها: أنَّه  «للندب»، ونُسب ذلك إلى الشافعي.

وثالثها: أنَّه «للإباحة»، وهو قول مالك .

ورابعها: يتوقف في الكل، وهو قول الصيرفي، وأكثر المعتزلة -وهو المختار-“.

وقال الإمام الرازي أيضًا: “وذهب المحدثون من أهل كل مذهب إلى أنَّ فعل الرسول (صلى الله عليه  وآله وسلم) إذا فعل مطلقًا فلا يثبت به علينا حكم أصلًا، لا وجوبًا ولا ندبًا ولا إباحة ولا حظر ولا إكراه، والحكم علينا بعد نقل فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كالحكم علينا قبل نقله”[1] .

وقال الغزالي بعد أن حكى المذاهب كلها في المستصفى: “هذه تحكمات؛ لأنَّ الفعل لا صيغة له، وهذه احتمالات متعارضة بل هو متردد بين الإباحة والندب والوجوب وبين أن يكون مخصوص به وبين أن يشاركه غيره فيه، ولا يتعين واحد من هذه الأقسام إلا بدليل” -أي قولي-، وحيرة الأئمة الفقهاء في هذا الموضوع نجمت عن صعوبة الجزم بتعدية الحكم إلى الأمَّة، وإثبات وجوب تأسيها به (عليه الصلاة والسلام) وإن عرفت جهه فعله، وكذلك ترددهم واستشكالهم تعين مستوى الفعل من الوجوب أو الاستحباب وإن كان وجوب التأسي ثابت.

وقال أبو الحسين البصري في المعتمد: “لا خلاف بين الأمَّة في الاستدلال بأفعال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأحكام، ثم اختلفوا فقال قوم هي أدلة بمجردها، وقال قوم هي أدلة إذا عرف الوجه الذي أوقعت عليه، واختلف الأولون، فقال بعضهم: هي أدلة بمجردها على الوجوب. وقال آخرون: بل على الندب. وقال آخرون: بل على الإباحة. فأمَّا من قال إنَّها أدلة باعتبار الوجه فإنَّه إن علم الطريقة التي اتبعها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك الفعل عقليَّة كانت أو سمعيَّة فهو يرجع إليها في الاستدلال، وإن لم يعرف الطريقة فضربان:

أحدهما: أن يكون فعله بيان لمجمل، فذلك المجمل هو دال على الوجوب أو الندب أو الإباحة.

والآخر: أن لا يكون بيان لمجمل، فلا يدل على شيء حتي يعرف الوجه الذي أوقعه عليه، فإن أوقعه على الوجوب دل على وجوب مثله علينا، وإن أوقعه على الندب دل على أنَّ مثله ندب منا، وإن أوقعه مستبيحًا له كان بالنسبة إلينا مباحًا.

        ويفترض أنَّ القائلين بحجيَّة السنَّة أن يعتبروا أفعال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أدلة بمجردها، دون التفات إلى الوجه الذي أوقعت عليه، فنحن مطالبون باتباعه والتأسي به على وجه الإطلاق، وهنا  نجد أنَّ الأصوليين بناء على ذلك وعلى أنَّ الأفعال لا تقترن بصيغ تدل على طلب الإقدام أو الإحجام جعلوا غاية ما يمكن أن يستدل بها عليه أن تكون قربه أو غير قربه؛ ولذلك فقد جعلوا أفعاله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أقسام:

القسم الأول: ما وقع منه على سبيل الامتثال للقرآن، من وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وما إلى ذلك فيتساوى فيه رسول الله وأمته.

القسم الثاني: وهناك الأفعال الطبيعيَّة التي تغلب عليها الإباحة مثل القيام والقعود والنوم والسفر والإقامة، وهذه يتساوى فيها البشر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويندرج الجميع تحت الأدلة العامَّة مثل قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً .. (البقرة:29)، ويدخل في ذلك ما كان يحبه من الطعام والشراب واللباس وطرائقه في النوم والمشي وبقية شمائله (صلى الله عليه وآله وسلم).

القسم الثالث: الأفعال التي صدرت عنه وجاءت أدله أخرى تبين أنَّها خاصَّة به، مثل إباحة الزيادة في النكاح على أربع، ووجوب قيام الليل عليه.

القسم الرابع: ما اقترن بتوجيه قرآني وعلم الناس أنَّه تطبيق لذلك: كجلد الزاني، وتطبيق أحكام اللعان، والقذف، وما إلى ذلك.

        وهناك أفعال صدرت منه ابتداء ولم يعلن أنَّها من خصائصه، وليست من الأفعال الطبيعيَّة التي طبع الناس عليها، فما علمت صفاته من كونه واجبًا أو مندوبًا أو غير ذلك من صفات الأفعال فإنَّه يأخذ تلك الصفة، وأمَّا ما لم تعلم صفته فلا يخلو أن يظهر فيه قصد القربه أو لا يظهر فيه ذلك”[2] .


 

خلاصة الأمر:

فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخلو إمَّا أن يكون من الأفعال الجبليَّة الطبيعيَّة أم لا، فإن لم يكن منها فلا يخلو إمَّا أن يكون من خواصه أو لا، فإن لم يكن فلا يخلو إمَّا أن يكون بيان لأمر قرآني وتطبيق له أو لا، فإن لم يكن فلا يخلو إمَّا أن تعلن صفته أو لا، فإن لم تُعلن صفته فلا يخلو إمَّا يظهر فيه قصد القربة أم لا، فهذه سبعة أقسام والله أعلم .

ذلك هو ملخص مواقف علمائنا من أفعال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ ولذلك آثار فكريَّة ضخمة لم يشعر الناس بها، منها: تلك الحيرة التي انتقلت إلى الناس في التأسي والاقتداء، وبناء اتباعنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واقتدائنا به على الحب والتعزير والتوقير، واتخاذه (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة ونموذجًا، بدلًا من قاض أو حاكم أو رئيس تنحصر مهمته في تطبيقات قانونيَّة، وذلك ما أورث فقهنا جفافًا وخشونة وبداوة منذ التدوين حتى عصرنا هذا.

 وإذا كانت النظم التربويَّة الحديثة تعطي للشروح القوليَّة في التعليم الناجح مع كل وسائل الإيضاح المعتمدة ما لا يزيد عن عشرين في المئة من التأثير وتعطي للفعل سبعين في المئة، فإنَّنا نستطيع أن ندرك الظلم الذي أوقعه فقهاؤنا في أنفسهم وفينا حين أعطوا لأفعال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك المساحة الضيقة التي لم تسمح للمسلمين بعد جيل التلقي أن يتربوا على الهدي النبوي، الظاهر في أفعاله وسيرته وسلوكه، فما أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحظي بذلك الشرف العظيم شرف صلاة الله وملائكته عليه ودعوة الله للبشريَّة كافَّة أن تصلي عليه إلى يوم الدين، إلا تنبيهًا بضرورة اتخاذه أسوة وقدوة، وهاديًا، ومبشرًا، ونذيرًا.

إنَّنا أحوج ما نكون إلى أعادة النظر ورد الاعتبار لأفعال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإخراجها من دائرة الجدل القانوني الجاف، إلى دائرة حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوقيره وتعزيره، ومعرفة طهارة أفعاله والتأسي به، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

[1] المحقق لأبي شامه دراسة وكتابه  المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الباحث: عبد الله بن عيسى العيسى، تحقيق وطبعة الجامعة: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، الكلية: كلية الشريعة، ص : 187.

[2] كتاب المعتمد في أصول الفقة، تأليف: أبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي، تحقيق محمد حميد الله، بتعاون محمد بكر، حسن حنفي، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية دمشق الجزء الأول 1384/1964، باب:”في أن السمع على الإطلاق لا يقتضي وجوب مثل ما فعل النبي” 377ص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *