أ.د.طه جابر العلواني
يطل علينا بعد أيام هلال شهر رمضان، وقد ألف كثير من الناس أن يصرفوا أوقاتًا طيبة في قراءة القرآن المجيد، وهو أمر محمود، لكن البعض يطمعه ثواب القراءة الوارد في الأحاديث الصحيحة فيظن أنَّ البركة في كثرة القراءة والختمات، ويتجاهل كثير من الناس التدبُّر وأهميَّته، وفي مقالتنا هذه نحاول أن نلفت النظر إلى ضرورة التدبر، فهو مقصد القراءة، به تحيا القلوب، وتتجدد النفوس، ويسمو الوجدان، وتنقى الضمائر فيتشوق القارئ إلى الإحساس بالقرب من الله والإخبات له، ذلك لأنَّ القراءة بدون تدبر جسد بلا حياة.
إنَّ القرآن المجيد كتاب الله -تعالى- ومستودع علمه وكلماته: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة:2)، ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف:52). ولا بد لمَنْ جاءه يريد أن يهتدي به، ويستضيئ بأنواره أن يقبل عليه وقد أدرك صفاته، ودلالات أسمائه وخواصَّه، ويلم بما يجعل فهمه ميسّرًا، لا ما يجعله عَسِرًا أو متعثِّرًا.
فمن توهّم أنّه مقبل على قراءة كتاب عاديّ مثل سائر الكتب، يقلّب فهرسه أو سوره وآياته بحثًا عن موضوع يعتزم الكتابة فيه أو دليل يستدل به على أمر صاغه أو شيء نحو ذلك فليعلم أنَّ القرآن لا ينفتح عليه في هذه الأحوال وقد لا يجد القارئ -الذي يجعله عضين، وأجزاءً وشواهد- ما يستجيب لرغبته، ويلبِّي طلبه؛ ولذلك عرّف القرآن نفسه بنفسه لقارئيه، وبيّن لهم بنفسه طرق قرائته ومناهجها؛ ولذلك فلا بد لمريد التدبُّر أن يتبيَّن ذلك -كلّه- ويدركه.
إنَّ أسلوب القرآن في تناول ما تناوله لا يمكن أن يوجد أو يستقيم إلا في هذا الكتاب الذي لا ريب فيه ولا اختلاف؛ وذلك لأنَّه كتاب ينطلق من عالم الغيب وعالم الأمر الإلهي تجاه عالم الشهادة بكل ما فيه من إنسان ومُسَخَّرات. فهو فريد في نظمه وأساليبه، فيه آيات مبيّنات تخاطب الإنسان في كينونته فطرةً ونفسًا وعقلًا وقلبًا ووجدانًا؛ لتحفز كل سُلامى –عضو، أو مفصل- في ابن آدم، ويعدها لتتهيَّأ لاستقباله والانفعال به، ولا تدع أيّ جانب من جوانب قوى الوعي فيه إلا وقد مسَّته. تفعل آيات القرآن ذلك -كلّه- دون أن تتجاهل محيط الإنسان وبيئته الكبرى والصغرى، ودون تجاهل تذكيره ببداية وجوده، والإرهاصات التي سبقت ذلك الوجود والهدف منه، وكيفيَّة تحقيق ذلك الهدف، ثم كيف تمتد رحلة الحياة من عالم العهد إلى عالم الجنَّة والنار؛ عالم الجزاء.
إنَّ آيات الكتاب إذ تقدِّم الإيمان والتوحيد وأركان الإيمان الصادق وصفاته والتوحيد الخالص تقدم العديد من الأدلة بأساليب مختلفة، فتعرض جانبًا من أدلة الخلق والعناية والإبداع والتسخير والتدبر والتقدير، بحيث تكاد تنقطع الأنفاس وهو يجول بقارئيه أو سامعيه في كل شيء وشأن دون نسيان أو تناسي للموضوعات التي بدأها، بل يجمع بينها برباط محكم في إطار «وحدة بنائيَّة» للسورة مضمومة إلى «الوحدة البنائيَّة الكبرى» للقرآن كلّه.
إنَّ تحدِّي قوى الوعي كلّها لتنفعل بالقرآن وتتدبر آياته، وتدرك أنَّ فيه مكنونًا وحذفًا وغيبًا نسبيًّا يتكشف عبر الزمان ليستوعب كل زمان ومكان، ثم يتجاوز ذلك إلى سواه حتى يوم الدين؛ لأنَّه آخر كتاب إلهي يخاطب البشريَّة -كلّها- والنبوّات قد ختمت، والرسالات قد توقفت، ليبقى هو الحافظ والمصدِّق والمهيمن على الدين كلّه، والدين الذي حمله وحفظه هو الدين الذي قدّر الله -تعالى- ظهوره على الدين -كلّه- وملته هي الملة الباقية المستمرة لا تفنى ولا تبيد إلى يوم يبعثون. فإذا وفق الله القارئ أو السامع إلى هذا الفهم فسوف يجعله ذلك من أسعد الناس حين يسلم القرآن زمامه وينقله من موضوع إلى آخر في ظاهر خطابه من غير أن يذهب به بعيدًا عن مقاصده العليا الحاكمة في «التوحيد والتزكية والعمران» ومنطلقاته نحو بناء الأمَّة والملَّة والدعوة.
تدبُّر هذا الكتاب ذي الذكر وهو يتناول قضايا الإيمان والتوحيد، والمسؤوليَّة الأخلاقيَّة ومفردات الأخلاق، والتاريخ وقصص الأنبياء، والأمثال والأحكام، ومشاهد القيامة، وقصص الغابرين والعبر والدروس التي تنبِّه إليها، ونقد الحضارات والقرون والأمم التي سادت ثم بادت، وعوامل سيادتها وازدهارها وعوامل تراجعها وسقوطها، والأمم التي أطاعت الله واستجابت له ولرسله، والأمم التي عتت عن أمر ربّها وعصت رسله، وينبّه إلى وسائل ودعائم بناء الأمم ونهوضها ووسائل سقوطها وتدميرها، وإلى أقوى المناهج التي تقود الإنسان إلى القيام بمهامه في هذه الحياة.
والقارئ المتدبّر مبهور الأنفاس وهو يتنقل بتلك السرعة بين موضوعات عالم الغيب وعالم الشهادة. يحدث ذلك -كلّه- دون تكرار ممل أو إسهاب أو اختصار مخلّ. تقرأ الآية عشرات المرات وتعود لتشعر كأنَّك تقرؤها للمرة الأولى أو أنَّك لا عهد لك بها من قبل، مع أنَّك تحفظها وتكرر قراءتها مرات ومرات. وقد تقرأ آية تشعر أنّها تتناول موضوعًا محدّدًا فإذا بها تعالج طرفًا، كأنّها تريد أن تتحدى قوى وعيك وتترك لك أطرافًا تكتشفها بالتدبّر أو لا تكتشفها؛ لأنَّ موعد بيانها لم يأتِ بعد، وأحيانًا ينقلك من مخاطب لآخر، ومن أسلوب حوار إلى أسلوب آخر، ومن مرحلة إلى مرحلة، ومن أمّة إلى أخرى. إنّه يقوم بتدريبك على كيفيَّة إحضار قوى وعيك -كلّها- وشحذها، ووضع طاقاتها -كلّها- في حالة استنفار دائم لتلقي القول الثقيل، واستيعاب ما يمكن من ذلك المحيط المشحون بكل ما فيه صلاح العقل والقلب والوجدان والحياة الدنيا والآخرة. فما من كتاب عرفته البشريَّة أو ستعرفه يمكن أن يرقى إلى عاداته في التعبير وأساليبه وتنوعها، ناهيك عن بلاغته وفصاحته وفرادة لسانه.
إنَّ من العسير أن تجد في هذا الكتاب موضوعًا محدّدًا أو مبحثًا متخصّصًا يمكنك فصله عن غيره مهما حاولت؛ لأنَّك في تلك المحاولة سوف تكتشف نواقص كثيرة؛ إذ إنَّ كل آية ترد في سياق لا يمكن إهمال سياقها أو تجاوزه بحال، وحين تأخذ بذلك -كلّه- تجد أنَّ الدلالة الموضوعيَّة لا يمكن أن تستغني عن السياق والسباق والعلاقة بعمود السورة، فالعلاقات الدلاليَّة للآيات ممتدة منتشرة أصلها ثابت وفروعها تمتد في سائر الاتجاهات؛ وذلك سرّ الكلمة حين تتعرض للاستعمال الإلهي وهذا الاستعمال مغاير للاستعمال البشري، ففي الاستعمال البشريّ لا تعدو الكلمة أن تكون حروفًا مجموعة منحصرة في نسبيَّة اللغة والخطاب ونسبيَّة المتكّلم. أمَّا في الاستعمال الإلهي فإنَّ كلمات الله لا تنفذ: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (لقمان:27)، فما بالك بمعانيها ودلالاتها؟ إنَّ الكلمة في الاستعمال الإلهيّ تعبير عن إرادته -سبحانه- تتصل بروح منه تتنزل بأمره من عالم أمره، فتحيل المعدوم إلى شيء، والّلاشيء إلى شيء مذكور، فهي محمَّلة بسلطان أودعه الله –عزّ وجلّ- فيها بحيث تنزل على بشر عاديّ لتجعل منه رسولًا نبيًّا يطاع بإذن الله وينصر به.
وحين تتنزل كلمات الله –تعالى- بلسان قوم ولسان رسولهم إنّما تتنزل لتستوعب لغة الرسول وقومه وتتجاوزها، لا لتنزل على قوانينها في الإطلاق والنسبيَّة والخلق والتشيّؤ؛ ولذلك كانت تلك المعركة التي شغلت أمتنا ما يزيد عن عشرين عامًا في العصر العباسيّ حول «خلق القرآن» -قياسًا على الكلمة التي أُلقيت إلى مريم لتكون عيسى- لا معنى لها، ولم يكن هناك داع لإثارتها. ولكنّ «التبطل المعرفيّ» كثيرًا ما جرّ إلى السقوط في مهاوٍ كان الناس في غنى عن السقوط فيها، لو شغلوا أنفسهم بالعلم المحمود والمعرفة النافعة.
لقد استقر في كثير من الأذهان أنَّ القرآن قسيم للتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، وما دام كل كتاب مما سبق جاء به رسول واختص به قوم فالقرآن -إذن- نزل على قلب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبلسانه ليكون خاصًّا بقومه كذلك، فهو بلغتهم نزل فيهم على قلب رجل منهم، وهذا التصور في ظاهره مقبول لدى العامَّة؛ ولذلك دخل في روع الكثيرين أنّ هذا الكتاب كتاب دينيّ، وإذا كان الناس قد أساؤوا فهم مفهوم الدين وحصروه في أضيق معانيه، فقد انعكس ذلك الفهم الضيق على القرآن المجيد ولم يُفهم خطابه العالميّ، ولا النص في مواضع كثيرة على حفظه وحده، ونقل كل ما هو إلهيّ -مما أنزل على الرسل من قبل من أصول- إليه وإيداع مسؤوليّة التصديق عليها وإعادتها إلى حالة الصدق إلى هذا القرآن ليصبح جزءًا لا ينفصل عنه بحال، وليصبح القرآن هو المصدر الوحيد لكل تلك الأصول التي أقام الله دينه عليها، ويهيمن القرآن -آنذاك- عليها، ويحفظها إلى يوم الدين؛ ولذلك جرّده الله (سبحانه) من كل ما قد يعزّز ذلك الوهم الذي ذكرناه؛ فقطع ما بينه وبين المناسبات أو أسباب النزول في العرضتين الأخيرتين ليأخذ صفة الإطلاق والعموم والشمول في الإنسان والزمان والمكان، كما غفل الكثيرون عن «ختم النبوّة» ودلالاته، فالقرآن نزل منجَّمًا مفرَّقًا ليقرأه رسول الله على الناس على مكث لتثبيت فؤاده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين، فقد أصبح القرآن -بعد ذلك- هو الثابت، وهو المحور والمركز الذي تحتاج البشريَّة -كلّها- أن تدور حوله وتصوغ أزماتها وإشكاليّاتها أسئلة تقدمها للقرآن الثابت ليجيب عنها ويعالجها بقراءة بشريَّة، لكنّها بسم الله وبمعيَّته وتجد في تراث التلاوة النبويَّة ما يسدّد خطاها.
كذلك غفل الكثيرون عن دلالة ختم القرآن بختم النبوّة، فلم يعد من الممكن نزول شيء من الله على أحد، فالنبوّة ختمت بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما ختمت الكتب -كلّها- بالقرآن المجيد، فلا عجب أن يعلن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يجود بنفسه الطاهرة أنَّه قد ترك في أمَّته ما إن تمسكت به لن تضل بعده أبدًا كتاب الله. والأمَّة «أمَّة إجابة» هي مطالبة أن تحمل هذا القرآن إلى سائر بقاع الأرض وإلى البشريَّة كافّة باعتبارها «أمَّة الدعوة».
فهل تكسر أختام النبوّة وتحطم أقفال الرسالة ليأتي أنبياء ورسل بعد خاتم النبيّين والمرسلين ليقوموا بإعادة تمثيل حياة «جيل التلقي» مرحلة وأحداثًا وإنسانًا، وتنزيل الفرقان -بعد تفريقه- من جديد مفرّقًا وفقًا لأحداث يصنع وقوعها من جديد؟! إنَّ الخيال قد يجمح ببعض أصحابه فيتمنّوا لو حدث هذا، ولكنّ جموحات الخيال وأحلام وأمانيّ الحالمين في جانب وسنن الله الماضية وقوانينه الثابتة التي ما تبدلت ولن تتبدل في جانب آخر!! فالأمانيّ مواضع إلقاء الشياطين وتدخلاتهم؛ لذلك لابد لنا من إعادة وعينا بالقرآن، ومقاصد القرآن، وأهدافه العليا، وغاياته الكبرى، وهذا لا يتم إلا بالقراءة المتدبرة، والتلاوة السليمة التي تستحق أن توصف بأنَّها حق التلاوة، والترتيل الذي أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) به وأمرنا به من بعده ﴿.. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (المزمل:4).
فأي وقت تريد أن تنفقه أيُّها الصائم مع القرآن الكريم أنفقه وأنت خاشع قانت متدبر متفكر متعقل، تقف عند كل آية، تحاول أن تعرف معناها، وقصدها، وعلاقتها بما قبلها وما بعدها، فإذا أقبلت على سورة من سور القرآن فحاول أن تتدبر لمعرفة عمودها الأساس، ونجومها، وسورها، وكيفيَّة جعلها مؤثرة في حياتك هادية لك، فهذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين وينذر قومًا لدا ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا﴾ (مريم:97)، نسأله سبحانه أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وجلاء همومنا وأحزاننا، ونور أبصارنا وبصائرنا في شهر رمضان وفي غيره، والله الموفق.