أ.د/ طه جابر العلواني
كثرت أسئلة الشباب مؤخرًا حول السؤال القديم الحديث، هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر في أفعاله؟ وهل هناك جبر إلهي، أو ما يسمى بالحتميَّة في أفعال الإنسان بحيث لا يستطيع الإنسان التخلُّص منها لو أراد؛ لأنَّها قدر إلهي؟ وهذه الظاهرة ظاهرة البحث عن التسيير والتخيير أو الجبر والاختيار تبرز حين تظهر في أيام الأزمات خاصَّة، وحين تعصف بالناس الفتن والمحن والمشاكل والأزمات، فيلجأ كثيرون إلى تحميل القدر مسئوليَّة ما يحدث، ومحاولة التنصُّل من مسئوليَّاتهم عن أفعالهم، أو الدفاع عن فقدان الإرادة والقيام بما يقتضي الخروج من تلك الأزمات، فالحتميَّة القدريَّة أو الجبريَّة تحمل المسئوليَّة كاملة.
يقول القاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي ــ في كتابه المغني في أبواب العدل والتوحيد، الجزء الثامن، الصفحة الرابعة ــ ناقلًا عن شيخه أبي علي قوله: “إنَّ من أول من قال بالجبر وأظهره الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان” الذي أظهر أنَّ ما وقع من الفتن بعد استشهاد الخليفة الراشد الثالث عثمان ــ رضي الله عنه ــ مسوغًا المعارك التي قادها ضد الخليفة المنتخب أمير المؤمنين علي ــ كرم الله وجهه ــ فأظهر معاوية ــ يغفر الله لنا وله ــ القول بالجبر، والتسوية بين مفهوم الجبر والقدر، وأنَّ كل ما حدث قضاء الله وقدره، لا يملك معاوية ولا غيره منع وقوعه، قال أبو علي: ليجعل ذلك عذرًا له فيما وقع منه، أي من حرب ضد الإمام علي، ويوهم العامَّة أنَّ ما وقع منه سواء اعتبر صوابًا أو خطأ هو بقضاء الله وقدره، ويجعله عذرًا عند العامَّة، ويوهم العامَّة أنَّه لم يكن له اختيار فيما حدث، ويجعل كل ذلك مسئوليَّة الله تعالى، لا مسئوليَّته.
يقول القاضي عبد الجبار: “وفشى ذلك القول في ملوك بني أميَّة بعده”، وهكذا دخلت فكرة الجبر إلى العقل المسلم لتسويغ أمراء الجور أفعالهم، وإلغاء مسئوليَّتهم عما يفعلون؛ لتخفيف الاحتقان والتوتر لدى الناس، وقد كان بعض السلاطين والأمراء يعدمون معارضيهم ثم يأمرون من ينادي في أسواق البلاد وأزقتها بأنَّ السلطان أو الأمير قد قتل صاحبكم بأمر الله وإرادته.
وقد ندد بفكرة الجبر كثيرون من علماء المسلمين، وبيَّنوا أنَّها منقولة في كتاب الله عن المشركين، الذين يقولون إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بأنَّهم متبعون لآبائهم، ولو شاء الله لحال بينهم وبين القيام بذلك الفعل، ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ (الأعراف:28-29).
أمَّا الإمام علي ــ رضي الله عنه ــ فقد وعظ أصحابه وجنده بعدما انصرفوا من معركة صفين شيئًا مغايرًا لذلك، فروى الرواة عنه أنَّه قد خاطب الناس وهم عائدون من صفين وقال فيهم كلامًا طويلًا حمَّل فيه المسئوليَّة لمن حاربوه، وأنَّه ما كان يريد ذلك، فقام إليه شيخ من أهل الشام ممن كانوا يقاتلون معه فقال: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء من الله وقدر؟
قال: نعم يا أخا أهل الشام، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئًا، ولا هبطنا واديًا، ولا علونا تلعة، إلَّا بقضاء من الله وقدر.
فقال الشامي: عند الله (تعالى) أحتسب عنائي إذًا يا أمير المؤمنين، وما أظن أنَّ لي أجرًا في سعيي إذا كان الله قضاه عليَّ وقدَّره لي.
فقال أمير المؤمنين ــ عليه السلام: إنَّ الله قد أعظم لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين، ولا عليها مجبرين.
فقال الشامي: فكيف يكون ذلك والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا؟!
فقال له أمير المؤمنين ــ عليه السلام: ويحك يا أخا أهل الشام! لعلك ظننت قضاءً لازمًا وقدرًا حتمًا، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله (عز وجل) والنهي منه، وما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسيء، ولا المسيء أولى بعقوبة المذنب من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدريَّة هذه الأُمَّة ومجوسها، إنَّ الله أمر عباده تخييرًا، ونهاهم تحذيرًا، وكلَّف يسيرًا، وأعطى على القليل كثيرًا، ولم يُطع مكرهًا، ولم يُعصَ مغلوبًا، ولم يكلف عسيرًا، ولم يرسل الأنبياء لعبًا، ولم ينزل الكتب على العباد عبثًا ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (ص:27). قال الشامي: فما القضاء والقدر اللذان كان مسيرنا بهما وعنهما؟
قال: الأمر من الله (تعالى) في ذلك والحكم منه ثمَّ تلا: ﴿.. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ (الأحزاب:38).
فقام الشامي مسرورًا فرحًا لمـَّا سمع هذا المقال، وقال: فرَّجت عنِّي يا أمير المؤمنين، فرَّج الله عنك وأنشأ يقول:
أنت الإمام الذي نرجـو بطاعته *** يوم النشور من الرحمـن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسًا *** جزاك ربك عنَّـا فيـه إحســانا
نفى الشكوك مقال منـك متَّضح *** وزاد ذا العلم والإيمــان إيقانـا
فلن أرى عاذرًا في فعل فـاحشة *** ما كنت راكبهـا ظلمًا وعـدوانا
كلا ولا قائلًا يومــًا لداهيــة *** أرداه فيها لدينا غيـر شيطــانا
ولا أراد ولا شاء الفســوق لنا *** قبل البيان لنا ظلمـًا وعــدوانا
نفسي الفداء لخير الخلــق كُلِّهِمُ *** بعد النبي علي الخيـر مــولانا
أخي النبي ومولى المؤمنيـن معًا *** وأوَّل الناس تصديقـًا وإيمــانا
وبعل بنت رسـول الله سيِّدنــا *** أكرم به وبها سرًا وإعـلانا
والقرآن المجيد حسم هذا الأمر في قوله (جل شأنه): ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الأنعام:148-149)، وقد كتب ابن القيم انطلاقًا من هذه الآية الكريمة كتابه المعروف (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)، فلعل من يريد الاستزادة في هذا الأمر يرجع إليه.