أ.د/ طه جابر العلواني
الكاتب الراحل يوسف السباعي كتب رواية سمَّاها أرض النفاق، وقد تحولت فيما بعد إلى فلم يحمل نفس العنوان، والرواية مثلت ظاهرة ملاحظة في كثير من المجتمعات البشريَّة، تلك الظاهرة هي تحييد الأخلاق، في ظروف معينة، فهناك ظروف صراع تحدث في بعض المجتمعات لأسباب مختلفة بعضهم يفسرها بالصراع الطبقي، وبعضهم يفسرها بثغرات تقوم بين الأجيال، نتيجة اختلاف الظروف، التي نشأ وتربى وعاش فيها جيلان، جيل الآباء وجيل الأبناء، وقد يلتقي أكثر من جيلين في بعض الأوقات أو الظروف، وفي الأحوال كلها عندما يحدث ذلك الصراع والاختلاف؛ يجمد البعض مجموعة القيم والأخلاق التي كانوا يتبنونها في أحوالهم العادية.
فالكذب المحرم الذي شددت الأديان كلها على تحريمه حتى أوجدت نفرة طبيعيَّة بين الفطرة الإنسانيَّة وبين ممارسة هذه الرذيلة، رذيلة الكذب، ولكن حين تحدث الخصومات يحيِّدون الصدق، أو يضعونه جانبًا؛ لأنَّهم يريدون الغلبة والانتصار في الصراع بأي شكل ممكن، وحتى جيل الصحابة حين وقع في الفتن فحصلت الفتنة الكبرى وجدنا البعض يهجو البعض الآخر بما يعلم حق العلم أنَّه ليس فيه، وأنَّ القائل كاذب فيما قال.
وقد كال خصوم الإمام علي ــ كرم الله وجهه ــ له ما هم على يقين أنَّه بريئ منه، وأنَّه أجَلّ من أن يقع منه شيء من ذلك، وكان معاوية بن أبي سفيان ــ نسأل الله للجميع الرحمة والمغفرة ــ يسأل أحيانًا بعض محبي الإمام علي عنه، ويعطيهم الأمان أن يصدقوه بوصفهم له، فحينما يذكرون سيرته ــ سلام الله عليه ــ يجهش معاوية ــ يغفر الله لنا وله ــ بالبكاء، ويقول: هكذا كان والله أبو الحسن. لكن ذلك الجيل مع كل ما حدث كان لا يستطيع أن يستبرئ تلك الحالة لفترات طويلة ولا يستطيع أن يتجاهل مآثر الآخر ومناقبه؛ ولذلك فإنَّ الإمام علي ــ كرم الله وجهه ــ نفسه قال: “إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا، فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّمَا أَنَا مُحَارِبٌ وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ”.
وحين خرج عليه من خرج قال في الخوارج حين سئل عنهم: “إخواننا بغوا علينا”، أمَّا الأجيال اللاحقة فقد اختلط عليها الحابل بالنابل، وشاع الكذب، وانتشر في حالات الصراع بحيث كان أهل الأدب يوصي بعضهم بعضًا بأن لا يسمعوا أقوال المتصارعين في بعضهم؛ لأنَّها أقوال غير دقيقة، ولا تخلو من كذب، وسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد نبه إلى أنَّ هناك انحرافات قد تقع من الإنسان المسلم وقد يقع فيها، لكنه حين سئل عن الكذب نفى عن صاحبه الإيمان، حيث قيل: يا رسول الله، المؤمن يكون جبانًا؟ قال: نعم، قيل: يكون بخيلاً؟ قال: نعم، قيل: يكون كذابًا؟ قال: لا. قال ذلك محتجًا بالآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (النحل:105)، وقد شاع الكذب في زماننا هذا شيوعًا جعل من الصدق عملة نادرة.
وهناك خصال أخرى، تندرج تحت هذه الظاهرة ظاهرة تحييد الأخلاق، ألا وهي ظاهرة الفجور في الخصومة، فإذا خاصم فجر، لا يقف أحدهم عند حد في خصومته، بل يذهب بها إلى أقصى المدايات. وإذا عاهد غدر، فالعهود تصبح لا قيمة لها، ولا التزام بها. وإذا اؤتمن خان، قال النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم): “أَرْبَعٌ مَنْ كنَّ فِيهِ كَانَ مُنافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتّى يَدَعَهَا: إِذا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذا عاهَدَ غَدَرَ، وَإِذا خَاصَمَ فَجَرَ”.
فكل القيم التي جاءت الأديان بها وعرفها الإنسان تصبح قيمًا محيَّدة أو مجمدة حتى إشعار آخر، ولا يدري هؤلاء أنَّ الإشعار الآخر لن يأتي أبدًا إذا اعتاد الناس على تحييد الأخلاق واستبدال السيئ الرديئ منها بالطيب السليم، لقد صارت هذه السلوكيَّات بعد رواية الأستاذ السباعي طوفانًا، زاخرًا وليس مجرد محل تباع فيه أخلاق وقيم، تحدث في الناس التغير المطلوب. فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فمتى تستعيد الأرض وسكانها القيم الأخلاقيَّة، وتتخلص من هذه القيم المرذولة؟ عسى أن يكون قريب.
يا الله، إنَّها ليس لها من دون الله كاشفة.