أ.د/ طه جابر العلواني
ظاهرتان لم أجد لهما تفسيرًا حتى الآن:
الأولى: تلك الفواصل بين الشام والعراق التي حالت دون التقاء البلدين في وحدة أو اتحاد أو تضامن لا في الجاهليَّة ولا في الاسلام، ففي الجاهليَّة كان الغساسنة من العرب يفضلون التعاون مع الروم والبيزنطيين، في حين كان العراق يرزح بتعاون المناذرة ملوك الحيرة مع الفرس في زمن الدولة الساسانيَّة وسائر العصور الفارسيَّة تقريبًا، وحين شمل الإسلام بأنواره البلدين الشام والعراق صارت الشام مركز الأمويين والعراق مركز العلويين الشيعة، ووقع بينهما صراع استمرت آثاره فترة طويلة، وحين شمل حزب البعث البلدين في حكمه سرعان ما اختلفا البعثيون السوريون مع البعثيين العراقيين، فاتخذ السوريون زكي الأرسوزي منظرًا لحزبهم، واتخذ البعثيون العراقيون ميشيل عفلق منظرًا ومفكرًا لهم، ولم يلتق الحزبان أو القسمان المفترقان من الحزب مع طول حكمهما للبلاد الشاميَّة والعراقيَّة، وانضمت سوريا بقيادة المجموعة البعثيَّة السورية إلى الحلفاء الذين قاتلوا صدام وجيشه وأخرجوهم من الكويت ومهدوا بذلك لاحتلال أمريكا للعراق بعد حين. هذه الظاهرة حاولت أن أجد لها تفسيرًا فعجزت، وأتمنى أن أسمع تفسيرًا منطقيًّا مقنعًا في هذا الصدد.
الجزء الثاني من الظاهرة -ظاهرة الصراع بين الجارين اللدودين العراق وإيران- فقبل الإسلام وفي ظل الدولة الساسانية وملوكها كانت فارس لا يطيب لها إلا أن تغزوا العراق، واُحتل العراق لفترات طويلة، واتُخذت المنطقة القريبة من بغداد “سلمان باك” عاصمة صيفية لملوك ساسان، فما يزال إيوان كسرى أو بقاياه قائمة بجوار بغداد، وما كانت تنتهي الحروب أو الخلافات بين العراق وإيران إلا لتبدأ من جديد، وحين دخل البلدان في الإسلام كانت القوات التي أدخلت إيران في الإسلام معظمها عراقيَّة، وكانت قيادتها عراقية كذلك؛ لأنَّ عمر (رضي الله عنه) بعد أن أقنعه علي وغيره من الصحابة (رضوان الله عليهم) بالعدول عن فكرته بقيادة الجيش المسلم الذي أراد إرساله إلى نهاوند لإنهاء الدولة الفارسية، قال: إذًا اختاروا لي قائدًا عراقيًّا يكون أول القوم إذا أقدموا وحاميهم إذا أدبروا أو أحجموا، فاختاروا النعمان بن مقرن وهو عراقي، وهدمت فارس على أيدي العراقيين بعد المعركة الفاصلة في نهاوند، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك إلا في العصور الأخيرة.
وحين قامت الدولة الصفوية في إيران كانت الحرب سجالا لثلاث قرون ونصف بين الصفويين والعثمانيين، وكانت ميادين تلك المعراك والصراعات عراقية، ولم نرى علاقات بين إيران والعراق إلا في فترات لا تكاد تذكر، منها الفترة التي لجأ فيها شاه إيران إلى العراق عندما طرده مُصدق وفترة حلف بغداد، فيما عدا ذلك كانت العلاقات مشوبة بفتور أو توتر شبه دائم، وكان موضوع الطائفيَّة حاضرًا بين البلدين، وكان الشيعة العرب في العراق يتمسكون بتشيع علوي في حين كان الإيرانيون يميلون إلى التشيع الصفوي، واللافت للنظر أنَّ الجناح البعثي الذي سيطر على الشام منذ انقلاب حافظ الأسد حتى اليوم كان ينتمي للطائفة العلوية، أمَّا البعثيون العراقيون فمع كثرة القيادات الشيعية فيهم لكن الصبغة الظاهرة كانت أنَّ القيادات أمثال أحمد حسن البكر وصدام حسين تنتمي إلى السنة، ولو في إطارها الشكلي.
هاتان الظاهرتان تستحقان من الباحثين في العلوم السياسيَّة والمعنيين بمستقبل المنطقة كثيرًا من البحث لمعرفة كيف يمكن بناء سلام دائم فيها مع كل هذه التناقضات بين أطراف ذات أهمية خاصة فيها.
لقد استحر القتل في علماء السنة وكنا نتوقع كلمة استنكار واحدة سواء من المرجعيَّة الشيعيَّة المتمثلة في الولي الفقيه في إيران أو المرجعيَّات الشيعية في النجف، إذ إن الاستنكار والتعزية من أبسط حقوق المسلم على المسلم، فكنت أتوقع أن أستمع إلى استنكار لهذا القتل الجماعي لعلماء السنة، وأصوات مواساة ورسائل تعزية لأهالي أولئك المشايخ السنة، ولكن لحد الآن لم نسمع من المراجع الكبرى في النجف وفي كربلاء وفي قم وأصفهان أي استنكارات أو تعازي لذوي أولئك الضحايا والشهداء الذين يقتلون بدماء باردة لتأجيج الصراع الطائفي الذي قد يأتي على الأخضر واليابس في المنطقة كلها، ألا ترى المراجع قتل النفس جريمة بقطع النظر عن أن تكون نفسًا سنيَّة أو شيعيَّة مسلمة أم غير مسلمة؛ فتصدر كلمة تعزية أو استنكار لهذه الجرائم الفظيعة.
أرجو أن لا أكون طالبت تلك المراجع بما لا تستطيع، حفظ الله العراق وسائر بلاد المسلمين من كل سوء، وأرانا الله الحق حقا ووفقنا للالتزام به وأرانا الباطل باطلا ووفقنا جميعا لاجتنابه.
المخلص: طه جابر العلواني