Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الإسراء والمعراج

أ.د/ طه جابر العلواني

الحمد لله نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئآت أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، ونصلي ونسلم على سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنقذنا الله به من الضلالة، وأنجانا به من الهلكة، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، (صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه).

ثم أمَّا بعد:

﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (الإسراء:1).

 واقعة الإسراء واقعة رفع الله بها سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) على النبيين والمرسلين درجات، فمعلوم أنَّ رسالات النبيين من قبل قامت على آيات حسيَّة في الغالب، مثل آيات موسى التسع، وآية نوح في النجاة بالسفينة البدائيَّة البسيطة من ذلك الطوفان الهائل، وكون النار تصبح بردًا وسلامًا على إبراهيم، وناقة صالح، وسائر الآيات الأخرى، كانت آيات حسيَّة، يؤيد الله بها الرسل والنبيين.

أمَّا رسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) فكانت آيته الكبرى التي تحدى الخلق كلهم بها قرآن أنزل على قلبه، واستقر في صدره، فهو من حيث غيبيَّته ودلالاته فاق سائر الآيات والخوارق، فهو لم يخرق أيَّة سنَّة كونيَّة، ولم يعطل أي قانون طبيعي، بل أيَّد ذلك كله، وصدَّق عليه، فكل قوانين الخلق والتشيُّؤ وسنن عالم الأمر وعالم الخلق وعالم الإرادة حافظ القرآن المجيد عليها، ونبَّه إليها، بل وظَّفها في الاستدلال على الإيمان الذي جاء به، فصاغ منها “دليل الخلق”: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (النحل:17)، ﴿أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (الواقعة:59)، ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (الطور:35). وصاغ منها (دليل العناية)، فهو (جل شأنه) رب العالمين، الذي جعل الأرض مهادًا والجبال أوتادًا: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (النبأ:6-7)، وهو الذي صورنا فأحسن صورنا: ﴿.. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (غافر:64)، وهو الذي جعل السماء سقفًا محفوظًا: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (الأنبياء:32)، وخلق البحر وسخره ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل:14)، ﴿.. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (الأعراف:54). وصاغ منها “دليل الإبداع” على غير مثال سابق، واستدل بما خلق وأبدع على وحدانيَّته، وأكَّد بها دلائل ربوبيَّته (فسبحانه جل شأنه)، الذي جعل خرق السنن آيات لسائر الأنبياء والمرسلين، وجعل تثبيت تلك السنن والقوانين آية لرسالة ونبوة خاتم النبيّين، وجعل لفت الأنظار إليها، والتوكيد على ضرورة ملاحظتها والعناية بها من دلائل قدرته وإتقان صنعته، ﴿.. صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (النمل:88).

ومن هنا تستمد واقعة الإسراء أهميَّتها، فهي الواقعة الأساس التي خرق فيها قانون المسافات، وانتقال الأجسام من مكان إلى آخر، وقانون الزمان، بحيث تقع هذه الرحلة ويعود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها إلى فراشه سالمـًا غانمًا، وحرارة جسمه لم تفارق فراشه بعد، وكأنَّه مجرد نموذج أراد الله (جل شأنه) بإظهاره على يد رسوله لقدرة الله البالغة على خلق السنن وخرقها، وإيجاد القوانين وتفعيلها وتعطيلها؛ ليبيِّن للكفار والمشركين أنَّ الآيات عند الله، وخالق السنن والقوانين قادر على خرقها، وتغييرها وتفعيلها وتعطيلها، فكأنَّها نموذج فريد في هذا النسق، ومن فرادته استمد أهميَّته.

وقد قرن الله بهذه الرحلة الغيبيَّة الطيبة المباركة أمورًا كثيرة، تعود على الرسالة والرسول، وعلى آثار ما جاء به، فالإسراء أعلن انتهاء الدورات الاصطفائيَّة التي كان الباري (سبحانه وتعالى) يصطفي فيها رسله، والشعوب التي يرسل إليها، والكتب والصحف التي ينزلها على أولئك الرسل بما يناسب أولئك الأقوام والشعوب؛ لتأتي فترة الكونيَّة والعالميَّة، فكأنَّ البشريَّة التي بدأت بآدم وتتابعت الرسل والنبيون على بناء دينها لبنة لبنة قد آن الأوان ليكتمل ذلك البناء برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لذلك قال: “مثَلي ومثلُ الأنبياءِ من قَبلي كمثلِ رجلٍ ابتنَى بيوتًا فأحسنَها وأجملَها وأكملَها. إلَّا موضعَ لبِنةٍ في زاويةٍ منَ زَواياها. فجعلَ النَّاسُ يطوفونَ ويعجبُهُم البُنيانَ فيقولونَ: ألا وَضعتَ ههنا لبِنةً فيتِمَّ بُنيانُكَ. فقال محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فكنتُ أنا اللَّبِنةُ”، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اللبنة وكان خاتم النبيين.

ودارت البشريَّة دورتها، ﴿.. كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (الأعراف:29)، فاستدار الزمان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستقرت الأرض، وعرفت حدود الأرض المحرمة فيها، وحدود الأرض المقدسة، وحدود ما عداهما، وجعلت الأرض كلها مسجدًا وطهورًا، ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (الأنعام:115)، وللإسراء رمزيَّته، فقد روي أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمَّ النبيين كافَّة في تلك الرحلة، وصلى بهم إمامًا صلاة مَّا، وهو أمر غيبيّ لا نعلمه، لكنَّه قد يكون بعض الآيات التي أراها الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) في تلك الرحلة، لنريه من آياتنا الكبرى ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (النجم:18)، وذلك يعني أنَّ هناك عمليَّة تسليم وتسلم، فالأنبياء كافَّة قد سلموا أماناتهم في الرسالة والنبوة والتبليغ إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فصار النبي الخاتم، والرسول الأخير الشاهد على أمَّة الأنبياء والمرسلين، وصاحب الرسالة الكونيَّة، الدائمة المستمرة إلى يوم الدين، يستغني البشر بكتابها عن كل ما عداها، فهو الكتاب المصدِّق المهيمن على كل ما سبق، والخاتم لكل ما ابتدأ، والذي سيترك البشريَّة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، على الكتاب المحفوظ في الصدور وفي السطور، لا يزيع عنه إلا هالك.

فيبقى القرآن في البشريَّة رسولًا دائمًا مقيمًا يهدي للتي هي أقوم، لا يأتي الناس بمثل إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيرًا، ولا تعرض لهم مشكلة إلا وجدوا لها في هذا الكتاب حلًا وهداية لما يعالجونها به، فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازله إلا وفي كتاب الله سبيل الهدى لمعالجتها.

        فهذه الرحلة المباركة جرت بين “المحرم والمقدس”، فمن أسري به؛ أسري به من البيت الحرام، أول بيت وضع للناس ببكة، مباركًا وهدىً للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران:97)، إلى المسجد الأقصى الذي كان مثابة النبيين والمرسلين كافَّة، وهو مسجد بارك الله حوله، وجزء من الأرض المقدسة التي أمر الله بني إسرائيل بعد أن تركوا مصر وأغرق فرعونها وجنده أن يدخلوها ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (المائدة:21)؛ ليطهروا من أدران الاستبداد، والشرك والسحر، وسائر ما كان يكرههم فرعون عليه.

 ولا شك أنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أراه الله (جل شأنه) في هذه الرحلة المباركة كثيرًا من آياته، ودلائل قدرته، وبيَّن في هذا الإسراء العجيب أنَّ أمَّة بني إسرائيل قد نسخت آيتها، وتم استبدالها، فلم تعد هي الأمَّة الصالحة لحمل رسالة الله إلى البشريَّة، فكانت إيذانًا بذلك الاستبدال، وهو استبدال نسق بآخر، فإذا كانت تفاصيل النسق الإسرائيلي كلها تدور على الغيب والغيبيَّات فإنَّ هذا النسق القرآني الإسلامي دار ويدور على الشهادة، والعلم، والجمع بين القراءتين، القراءة في الكون، والنظر في سننه وقوانينه، وقراءة الخلق،  ومعرفة روابطه، وقراءة كل ما خلَّفته البشريَّة من تراث، وراكمته بأقلامها من ثمرات العقول والأديان، كل ذلك نجد له متسعًا في دلالات هذا الحدث العظيم.

 وإذا كانت شريعة بني إسرائيل شريعة إصر وأغلال قد تأمر بالمشددات، وقد تأتي بالأمور الصعبة الثقيلة، وتكليف الناس بما لا يستطيعون القيام به، إلا مع كثير من الحرج والمشقة، فإنَّ شريعة القرآن المجيد المنزلة على الرسول العظيم شريعة تخفيف ورحمة، ووضع للإصر والأغلال عن البشريَّة، لا يمكن أن تُحل خبيثًا، ولا أن تُحرم طيبًا، ولا أن تأمر بمنكر، فلا يمكن أن يرد فيها: “اقتلوا أنفسكم”، كما هو في شريعة بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة:54)، ولا أن ينتق الجبل فوق الناس ليكرهوا على أن يقولوا سمعنا وأطعنا ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (الأعراف:171)؛ ولذلك فإنَّ مواصفات هذه الشريعة جاءت كما في سورة الأعراف فيما أوحاه الله إلى موسى؛ ليبشر الناس به، ويبيِّن لهم أنَّ موعد هيمنة الغيب على الواقع الطبيعي والخوارق على السنن والقوانين، والإصر والأغلال على الشريعة، والنبي الرسول، والقائد القومي مثل موسى قد انتهت، وقد أذن الله أن ترفع، ويأتي بديلًا عنها رسول يمثل رحمة للعالمين كافَّة، هو خاتم النبيين في الوقت نفسه، وكتاب سينزل من بعد موسى، هدى ورحمة للناس كافَّة، وشريعة تخفيف ورحمة، وحاكميَّة كتاب بدلًا من الحاكميَّة الإلهيَّة.

فالنسق الجديد نسق يقوم على ختم النبوة، وشريعة التخفيف والرحمة، ووضع الإصر والأغلال، وحصر الأوامر بالطيبات، والنواهي بالخبيثات، فالدنيا سوف ترى عهدًا جديدًا مع النبي الأمي، لا عهد لها بمثله، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي الرحمة، لن تر ــ بعد بعثته ــ البشريَّة الخسف ولا مسخ الأمم التي ترفض دعوته إلى قردة وخنازير، أو غيرها، ولن تر عذاب الاستئصال بالصيحة أو بريح صرصر عاتية، أو بالطوفان، أو ما شاكل ذلك، وسيقود خلق الله كافَّة في مسيرة عبادة وتسبيح لله (جل شأنه)، وتنزيه وتقديس له (تبارك وتعالى)، تلك هي بعض دلالات الإسراء، والدروس والعبر المستقاة منه، فهو إسراء الاستبدال، ومنطلق التغيير والإصلاح في حياة الإنسانيَّة كلها، وكان لهذه الواقعة أبعد الآثار وأعمقها في حياة البشريَّة كلها.

والقرآن المجيد لحكمة أرادها الله (تعالى) لم يذكر لنا في سورة الإسراء إلا الإسراء وحده، وألف الناس أن يقرنوا بين “الإسراء والمعراج”، ويوحدوا بينهما، فلا يذكر الإسراء إلا ويذكر معه المعراج، لكنَّنا لا نجد للمعراج ذكرًا في كتاب الله (جل شأنه)، إلاأنَّه ورد في بعض الأحاديث النبويَّة، وهناك إشارات في القرآن الكريم فهم البعض منها أنَّها تتعلق بالمعراج، ألا وهي ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا (الإسراء:60)، فقد فهم البعض أنَّ سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أسري به جسدًا ونفسًا، وأمَّا المعراج فكأنَّه كان رؤيا مناميَّة، أراه الله إيَّاها، فحدَّث بها، فصدَّقه من صدَّقه وارتد البعض؛ لأنَّ عقولهم لم تحتمل أن تكون هذه الرؤية واقعيَّة أو قد وقعت له (عليه الصلاة والسلام)، وقد يكون الأمر كذلك.

 ويكون الله (جل شأنه) لحكمة إلهيَّة قد ذكر لنا الإسراء ولم يذكر المعراج، فإنَّ من كذَّب بالمعراج يكون قد كذب برؤيا، والتكذيب بالرؤيا أخف من التكذيب بحقيقة تتجازو الرؤيا المناميَّة إلى المشاهدة وعالم الشهادة، ويعزز بعضهم ذلك بما ورد في سورة النجم من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (النجم:13-18). وفي كل الأحوال إذا اقترنت هذه الإشارات بالأحاديث الصحاح فإنَّ الأمر مسلَّم، لكن التفاصيل الكثيرة التي أدرجت في أحاديث المعراج تحتاج كلها إلى تثبُّت وإلى إعادة دراسة أسانيدها ومتونها؛ لتنسجم مع تلك الإشارات القرآنيَّة، ولا تتجاوزها بتلك الطريقة التي نراها في المرويَّات الكثيرة لواقعة المعراج، وما حدث وجرى فيها.

إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تخرج هذه الواقعة سواء الإسراء متفردًا أو بإضافة المعراج، عن أنَّ النسق الإسلامي الذي نزل القرآن به على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كونه نسقًا ينتمي إلى عالم الشهادة في جملته، ويتعامل انطلاقًا من الجمع بين القراءتين في تفاصيله، ولا ينفرد بقراءة غيبيَّة واحدة، وهذه الدروس التي أخذناها من الإسراء تكفي، وهي كافية شافية لبيان مزايا الوحي المحمدي والخصائص الذاتيَّة لكل ما جاء فيه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

ثم أمَّا بعد:

تلك هي واقعة الإسراء، ولا يمكن الحديث عن الإسراء دون المرور بالإشكاليَّة الكبرى التي هيمنت على أمَّتنا منذ أن وعد بلفور الوزير البريطاني قادة الحركة الصهيونيَّة واليهوديَّة العالميَّة بمنحهم دون استحقاق الأرض المقدسة، حيث وهب من لا يملك لمن لا يستحق، وقامت تلك المنظمة بالتعاون مع المنظمات الصهيونيَّة واليهوديَّة الأخرى بالعمل على إقامة دولة إسرائيل في القلب من العالم العربي، واعدوا لذلك العدد، منها تخريب البلاد المجاورة لإسرائيل. فعقيدة ما يزيد عن خمسين مليونًا من الأمريكيّين الذين يسمون ب”المسيحيين اليهود” أو “اليهود المسيحيون”؛ أنَّ الأرض يجب أن تملأ خرابًا، وأرض العراق تصبح يبابًا، وتُقرأ مزامير داود في أطلال قصر نبوخذنصر في بابل.

 وكان هؤلاء يعتقدون أنَّ السيد المسيح سوف ينزل على الهيكل في بيت المقدس قبل أن تنتهي ولاية بوش الثانية، أي ما بين سنة 2001 : 2009، وظل بوش يساند إسرائيل بكل ما استطاع من قوة، ويناصرها في قضاياها طيلة فترة ولايته، لتنشر الخراب فيما حول موقع المعبد والهيكل؛ لأنَّ السيد المسيح لن ينزل إلا بعد أن تمتلئ الأرض بالخراب، وينتشر فيها الدمار، وإلا فكيف يكون مخلِّصًا؟ ومخلِّصًا من ماذا؟ ولماذا؟.

فاللهم ياربنا هيئ لأمتنا أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل:90).

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *