أ.د/ طه جابر العلواني
كُلما أفلس نظام سياسي، ولم يعُد عِنده ما يفعله لإنقاذ نفسه من هلاك مُحقق وانهيار مؤكد؛ يبرُزُ رأسُ النظامِ أو من دونه لينادي بتطبيق الشريعة، وهي عندهم لا تعني أكثر من النظام العقابي المـُشتمل على مجموعة “الحدود، والإذن بالتعازير للأئمة”. والحدود في نظر الفقهاء الذين نظَّروا لقادة الأنظمة – قديمًا وحديثًا – هي العقوبات التالية: قتلُ القاتلِ قصاصًا، وقطع يدي السارق، ورجمُ الزاني المـُحصن (أي المتزوج) أو جلده إذا لم يتزوج بعد مئة جلده، وحدُّ القاذف ثمانين جلدة، وحدّ الردة، والحرَابة.
هذه العقوبات يتبنَّاها قادة الأنظمة الديكتاتوريَّة حين يُفلسون ليردُّوا بها شيئًا من هيبة الحكم والسلطان؛ وليقوموا بنوع من المبادلة الساذجة بين الله وبينهم – بزعمهم، فيريد الديكتاتور أن يقول لله (تعالى) بلسان الحال أو المقال: لقد طبَّقتُ شريعتك ونظامك العقابي فقطعتُ وقتلت ورجمت وجلدت، وقطعت من خلاف، وما دمت قد فعلت ذلك فقد صار حقاً عليك أن تنصرني، وتحمي نظامي من السقوط. فعلها نميري قبل أن يسقط ولم تغن عنه من الله شيئًا وسقط نظامه، رغم أنَّه طبَّق حُكم المرتد على شيخ فان بلغ من العُمر ما يقرب من ثمانين عامًا أو يزيد، فقضى عليه بالقتل بمقتضى حد الردة المزعوم، والقرآن قد ذكر الردة في أكثر من اثنتي عشرة آية، لم يذكر في أي منها عقوبة للمرتد في الحياة الدنيا بل أحال عقوبته إلى الدار الآخرة.
وهذا أمرٌ منطقيّ جدًا؛ لإنَّ الإيمان حق الله على الإنسان، وله وحده أمر من يؤمن ومن يكفر، أمَّا هو (جلَّ شأنه) فقد خيَّر الناس في الحياة الدنيا، وقال: ﴿.. فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ..﴾ (الكهف:29). وأنزل في كتابه العزيز مئتي آية تكفل للناس حرية التديُّن واختيار الدين، ولم تأت آية واحدة تشير إلى أيَّة عقوبة في غير الدار الآخرة على مَن يغير دينه. كما نفى الله (جل شأنه) صلاحيَّة أي أحد، ومنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن يعاقِب على تغيير الدين، أو يكره الناس على الإيمان بدين يختاره لهم، وقال لنبيه مستنكرًا: ﴿..أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:99)؛ ﴿..أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود:28)؛ ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ .. ﴾ (البقرة:256)؛ ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (يوسف:103)؛ ﴿.. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ..﴾ (الشورى:48)؛ ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)؛ ﴿..وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ..﴾ (ق:45)؛ ﴿.. فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (النحل:35).
كُل هذه الأدلة القطعيَّة الجازمة تدل على أنَّ لا شئ هناك اسمه حدّ الردة، فمن أين جاء الفقهاء بهذا الحد؟! إنَّهم قد خلطوا بين جريمة وأخرى؛ فوضعوا الردة مع جريمة الخروج على النظام العام، وخيانة الأمَّة خيانة عظمى، والانضمام إلى أعدائها ونصرتهم عليها؛ هذه الجريمة المركبة قد خلطوها خلطًا عجيبًا، ووضعوا لها عقوبة الردَّة، وعززوا ذلك بحديث فيه مشاكل في إسناده وفي متنه، وهو: “من بدَّل دينه فاقتلوه”. وآخر زكي معظم رواته بالسبر، وهي تزكية لا تقبل عند المحدثين وهو: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأنِّي رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”. وقد ناقشنا ذلك بشكل مطوَّل في كتابنا: (لا إكراه في الدين)، المطبوع باللغة العربيَّة ثلاث طبعات، وباللغة الإنجليزيَّة، وبغير لغة من اللغات الحيَّة. ويمكن لهؤلاء الرجوع إليه لمعرفة الثغرات الموجودة في هذه الأحاديث التي لا تجعل منها أدلَّة يُمكن أن تقوم في مواجهة الأدلة القرآنيَّة القطعيَّة التي دلَّت على حُريَّة التدين دلالة قطعيَّة لا يُشكك فيها إنسان عاقل، وأمَّا عن دعوى الإجماع فأي إجماع يُمكن أن يقوم مع مخالفة عمر وابراهيم النخعي وسفيان الثوري. فإذا كان الإجماع المزعوم في عهد الصحابة، فقد خالف فيه عمر الذي لم يكن يرى للمرتد عقوبه، وأنَّه إذا خيف منه أن يروج لردته ويدعو إليها فللجماعة حبسه وإطعامه إلى أن يؤمن شرَّه.
وأمَّا “حد الحرابة” فهو عقوبة كانت في بني إسرائيل، وعمل بها في عهد رسول الله مع بني قريظة حين خانوا كُلَ المعاهدات، وحالفوا المشركين، وكادوا يوقعون بأهل المدينة جميعًا المؤمنين منهم والمشركين واليهود. فأعطاهم الرسول الحريَّة في اختيار حَكَم يرتضونه ليحكم فيهم، وكان حليفهم فيما سبق زعيم الخزرج سعد ابن معاذ؛ فحكم عليهم بقتل المقاتلين، وتجريدهم من أموالهم ،وأسلحتهم، وطردهم خارج حدود الحجاز، وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (الحشر:2)، ولم يطبّق لإنَّه حد يخص يهود، وقد جاء في صيغة “يعيثون في الأرض فسادًا”، وهي صيغة يوصف بها اليهود في الخطاب القرآني.
ومن المؤسف أنَّ حكَّام الجور من بني أميَّة والعباسيين والعثمانيين وغيرهم طبقوا هذا الحد على الخارجين على أنظمتهم ومعارضيهم. وآخر من استند إليه شيخ الأزهر الأسبق عبد الرحمن تاج، حيث عمل على إرضاء ناصر وأصدر فتوى بقتل ستة من قادة الإخوان المعارضين -آنذاك. ومازلنا نسمع بين حين وآخر بتطبيق حد الحرابة، وصدَّام بعد حملته الإيمانيَّة نادى بتطبيق الشريعة وكان لا يكفيه أن يقطع اليد بالنسبة للسارق بل كان يضيف إليه صلم الأذن وقطع الأنف.
إنَّ شريعة الإسلام هي الشريعة التي وصفها الله بأنَّها شريعة تخفيف ورحمة، ورسول الله مُحمد أرسل رحمة للعالمين؛ ولذلك فقد انتفى حد الردة على يديه، والحرابة، والقصاص خفف إلى ثلاث مستويات، هي: (العفو، والدية، والقصاص إذا أصرّ ولي الدم ولم يرض بالمستويين الأوليين). والقطع لا يقبل أن يطبق إلّا إذا ثبت أنَّ السارق قد تحوَّل إلى محترف للسرقة لا علاج له فيها، وفي الوقت نفسه قد اختلفوا في القطع ومعناه، هل هو إبانة اليد، أم جرحها فقط؟ ذلك أنَّ القطع قد ورد في سياقات قرآنيَّة عديدة ليس منها البتر، فاضطربت أقوالهم فيها. لكن الفقهاء مالوا كالعادة إلى البتر.
واليوم تطل علينا “داعش والغبراء” و”بوكو حرام، وبوكو السودان”، وبعض ذوي العاهات الفكريَّة في مصر، ومعهم سواطيرهم، فذاك يُلقى من فوق السطوح، وآخر يقطع بالساطور، وثالث يسمي على المتعوس الذي يضعه الله بين أيدي هؤلاء ويحز رقبته بسيف مكسَّر، وهو يظنّ أنَّه قد نصر الله، وانتصر لشريعته، وأقام حكمه، ولم يدر أنَّ الله (جل شأنه) مع العدل لا مع الظلم، ومع الأمانة لا مع الخيانة، ومع الرأفة والرحمة لا مع الجزارة البشريَّة. وهكذا ابتلينا بهؤلاء الذين يريدون أن ينقذوا أنظمتهم ولو بالتضحية بالإسلام وسمعته وحاضره ومستقبله.
وكلما هدأت الأمور جاء بضعة مجانين وأعادوها جذعة بإقامة حد القتل على مسكينة لا ناصر لها، وحكموا برجمها وقالوا: “هذا حُكم الله”!! ولو حكموا الله (جل شأنه) حقَّ الحُكمِ لالتفتوا إلى الذل الذي هُم فيه والتخلف الذي يتمرغون به، وحالات الصغار التي يمسون ويصبحون بها، والجوع والأمراض وما إليها.
اللهم إنَّا نبرأ إليك مما يفعل هؤلاء، ونعتذر إليك من غثاءآتهم، فهم نوع آخر من أنواع سفهاءنا.. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.